Morpheus : The Matrix is a system, Neo.
That system is our enemy.
But when you're inside, you look around. What do you see?
Business people, teachers, lawyers, carpenters.
The very minds of the people we are trying to save.
But until we do, these people are still a part of that system,
and that makes them our enemy.

Morpheus : You have to understand
most of these people are not ready to be unplugged.
And many of them are so inert
so hopelessly dependant on the system
that they will fight to protect it.


Thursday, April 24, 2014

#ارهاصات_مابعد_حداثية

#ارهاصات_مابعد_حداثية

انهم يأكلون النباتات
ضحكات مبهمة مكتومة

لقد أخد مني السنجة يا سيدي
مقالتليش كل سنة وانتي طيبة

باعشق لما دماغي يتدفق فيها عصير القصب
الساعة أربعة
كل ده هيتنسي

اختر معاركك
كسبت الجولة دي من غير خساير

حروبك الجاية كتير
مش بس اختار معاركك اختار حلفاؤك

Verified
وبصله وقاله أنا لسه مخلص كتاب كيف تكبر وتسيطر
 مقتطفات من موسوعة علمني العوم والنبي يا أحما

انا مقتنع تمام ان الواد ده دماغه خربانه وعقله موسوس
شعرها بيلمع قوي

اللذه واللجام
Hit and Run أضرب وأجري

I won't lose my peace of mine
حلوة قوي النطة دي

أه لو تعرف
يو أر صو جود طوبي طرو

ماحدش عاجبه حاجة
جابو ألضو شالو شاهين

يادي النيلة الشحن خلص وانا نازل
هافكر واقولك قبل ما أمشي

close your eyes ... fall in love ... stay there.
طبعت كل قصايد نزار :)

String Theory
الابعاد الاحدي عشر
Humanity is overrated
انت أنسان مبالغ فيه

هري هري هري
اشتري دماغك من عند أقرب بقال
USB 64 GB

#ارهاصات_مابعد_حداثية

Saturday, July 6, 2013

رومانسية العلم كارل ساجان - Carl Sagan



رومانسية العلم 
كارل ساجان 
ترجمة
د. أيمن توفيق 


يهدف الكاتب في كل مقالاته إلى التحريض على المنهج العلمي في التفكير، الذي هو تحليل نقدي متشكك في المقام الأول، لا يتقبل الحقائق إلا بعد اختبارها و إقامة الدليل على صحتها ويرى أن "أهم ترياق للأفكار الخاطئة ألا نأخذ أي شيء كأمر مسلم به". كما يقر العالم المرموق حقيقة هامة، وهي أن "النقص ليس في الذكاء الذي هو متوفر بكثرة، و لكنه في التدريب المنظم على التفكير النقدي الذي هو سلعة نادرة"، ولذلك فإن عامة الناس كثيرا ما يتقبلون الإشاعات و الأكاذيب و يتعرضون للغش والخداع من مروجي الخرافة و مدعي القدرات الخارقة، بل و يرفضون الحقيقة الواضحة بكذب هذه الادعاءات، وهم "نادرا ما يقرون بالجميل لمن ينبههم إلى سذاجتهم". وينصح الكاتب الناس بتصعيب المهمة على هؤلاء الأدعياء بمطالبتهم بإثبات ادعاءاتهم بشكل علمي واضح، "فالادعاءات غير العادية تحتاج أدلة غير عادية".

وفي واحد من أمتع فصول الكتاب يحكي لنا الكاتب قصة بداية العالم الجليل "ألبرت أينشتاين" واكتشافاته العظيمة، و التي يروج من خلالها لتغيير أساليب تدريس المواد العلمية التقليدية القائمة على التلقين والحفظ و العرض النظري، لأنها تظلم الطالب وتظلم قبله العلم بإخفاء حقيقته المثيرة الشيقة تحت لحاء قاتم منفر يعافه الدارس (وهو ما يذكرني بكراهية أغلبنا للمواد العلمية أثناء التعليم الأساسي)، ويستشهد على رأيه بمقولة أينشتاين أنه "بوسع المرء أن يقضي على نهم حيوان مفترس في صحة جيدة إن هو أجبره بالسياط أن يأكل بصورة مستمرة سواء كان جائعا أم لا". و يعود الكاتب إلى النقطة الأولى، وهي أن الهدف من التعليم ليس تحزين المعلومات، وإنما تبني التفكير العلمي الناقد و المبدع. وهذه النقطة بالذات تفسر واقعنا المحزن كمجتمع مصري و عربي، فرغم كثرة حملة الشهادات في بلادنا، إلا أن اغلبنا لا ينتهج التفكير العلمي في حياته، فيعيش عشوائيا دون تخطيط، متخذا الخرافة دليلا، فاقدا القدرة على النقد الموضوعي لا يفرق الغث من السمين، وهو ما يترك الفرصة للفاسدين و العاجزين و 
الطغاة للتحكم في حياتنا و مصائرنا.

وفي فصل ممتع آخر، يقارن الكاتب بين العلم الحقيقي و أدب الخيال العلمي و سينماه، معتبرا أن "العلم أكثر تعقيدا و براعة و يكشف عن كون أكثر ثراء و يستثير بقوة شعورنا بالعجب و الاندهاش. كما أن له فضيلة إضافية وهامة – وهي عمق المعاني التي تحملها الكلمات الصادقة"، وعليه فهو يرى أن عرض العلم و تصويره بما يليق به و بما يبرز جوهر يغني عن الخيال العلمي بل و يتفوق عليه.
ويرى عالمنا أننا كحضارة بشرية لازلنا في طور الصعود، و أننا لم نصل بعد إلى غاية التقدم، وان هدفنا كبشر في بحثنا الدائم عن الحضارات خارج كوكب الأرض "ليس إرسال الرسائل، فنحن لازلنا صغارا و متخلفين، و إنما هدفنا هو الاستماع".
ولا يخفي الكاتب ميله لرفض الأديان و نقدها (أبواه يهوديان)، ويرى أن الكثير من الفظائع و المصادرة على حقوق الناس في التساؤل و النقد و البحث في حقيقة الكون ونشأته قد تمت باسم الدين، لذلك لا يصح أن يكون الدين عقبة في سبيل تطور الحضارة 
وتقدمها.

يعيب هذا الكتاب في رأيي أمران: الأمر الأول عدم توضيح تاريخ كتابة المقالات المتضمنة فيه، وهو أمر في غاية الأهمية لربط المحتوى بواقعنا خصوصا و أن المؤلف قد توفي عام 1996، و التطور العلمي أصبح متسارعا بشكل يصعب ملاحقته. أما الأمر الثاني فهو ركاكة الترجمة في بعض المواضع، والمترجم المجتهد (د.أيمن توفيق) معذور فيما يخص الترجمة، لأن ترجمة المادة العلمية وكما هو معروف ليست بالأمر السهل.
الكتاب متوفر بسعر زهيد للغاية رغم جمال غلافه وجودة طباعته و إخراجه، كما انه يخلو تقريبا من الأخطاء الإملائية والمطبعية.
أدعو الجميع لقراءة هذا الكتاب والاستفادة منه. 

من عرض للكتاب في جودريدز


Friday, April 5, 2013

تعاونيات المزارعين – فكرةٌ آن أوانها ؟ التعاونيات يمكن أن تكون هي السبيل لإطعام العدد المتزايد لسكان العالم Farmer co-ops – an idea whose time has come? Cooperatives could be key to feeding a growing global population

تعاونيات المزارعين – فكرةٌ آن أوانها ؟

 التعاونيات يمكن أن تكون هي السبيل لإطعام العدد المتزايد لسكان العالم

 

هل تعلم أن التعاونيات تقدم ما يزيد على 100 مليون فرصة عمل في أرجاء العالم؟ أي أكثر مما تقدمه الشركات متعددة الجنسية بنحو 20 في المائة. 
نعم، الحركة التعاونية آخذة في النمو، كما بدأ  الخبراء يشيرون الى تعاونيات المنتجين على نحو خاص  بوصفها بقعةً ساطعة البياض في صورة الوضع الغذائي في العالم. ولذلك تم اختيار  شعار "التعاونيات الزراعية تغذّي العالم" ليكون هو شعار يوم الأغذية العالمي (16 أكتوبر/تشرين أول) هذا العام."
بالرغم من أن فكرة التعاونيات باتت تنتشر على نطاق واسع، فان كثيراً من الناس ما زالوا لا يعرفون على وجه الدقة ما هي التعاونيات. التعاونية بشكل عام هي مجموعة من الناس  الذين يعملون معاً بصورة طوعية من أجل منفعتهم  المشتركة.
وكان يطلق على التعاونيات "نموذج الأعمال التجارية الملتزمة بما يمليه الضمير". إذ أن التعاونية توازن بين هدفين:
1- السعي لتحقيق الربح بصورة مستدامة
2- تلبية احتياجات الأعضاء وتطلّعاتهم. 
وتنتشر التعاونيات في كثير من البلدان في قطاع الزراعة بصورة رئيسية. حيث تتشارك التعاونيات الزراعية
في العُدد اليدوية والمعدات الثقيلة والبذور والشغل والأمور الضرورية الأخرى. كما يتقاسم أعضاء التعاونية ما تحققه من غلال وأرباح.
ومما يجدر ذكره أن التعاونيات في الولايات المتحدة تهيمن على نحو 80 في المائة من إنتاج الألبان. كما تقدم التعاونيات في البرازيل نحو 40 في المائة من الناتج الزراعي المحلي الإجمالي للبلاد. أما في كينيا فقد حازت التعاونيات على 95 في المائة من سوق القطن.
وقد أثبتت بحوث كثيرة أنه بينما لم يتمكن صغار المزارعين الذين يعملون بصورة فردية من الاستفادة من الفرص المتاحة في الأسواق (ارتفاع اسعار الأغذية)، حقق صغار المزارعين الذين يعملون بصورة تعاونية نجاحاً كبيراً في ذلك. فما الذي يجعل التعاونيات فعّالة الى هذا الحد؟ يُعزى ذلك الى العمل كفريق واكتساب قدرة أكبر على المساومة وتشكيل اقتصادات كبيرة. فحينما يعمل الناس سويةً يصبح في مقدورهم تحقيق نتائج لا يمكن لهم تحقيقها بأي طريقة أخرى.
هل لديك ما تريد قوله بشأن تعاونيات منتجي الأغذية؟ إنضم الى النقاش الدائر على صفحة القضاء على الجوع على الفيسبوكوعلى التويتر.
هل تبحث عن طريقة للاحتفال بيوم الأغذية العالمي؟ فكّر في مساندة التعاونيات في منطقتك

Farmer co-ops – an idea whose time has come?

Cooperatives could be key to feeding a growing global population

Did you know that cooperatives provide over 100 million jobs around the world? That’s 20 per cent more than what multinational corporations offer.
Yes, the cooperative movement has been growing, and producer cooperatives in particular are being pointed to as a bright spot in the global food picture. The chosen theme of World Food Day (16 October) this year is “Agricultural Cooperatives – Key to Feeding the World.”
The cooperative idea is spreading, but a lot of people still don’t know what a cooperative really is. In a nutshell, it is a group of people who voluntarily work together for their mutual benefit. Cooperatives have been called “the business model with a conscience.” A cooperative balances two main goals:
1.    pursuing profit in a sustainable way
2.    satisfying members’ needs and aspirations.
In many countries, cooperatives are primarily agricultural. Agricultural cooperatives share tools, heavy machinery, seeds and labour, among other necessities. They also share their harvest and their profit among the cooperative members.
In the United States, cooperatives control about 80 per cent of dairy production. In Brazil, they account for 40 per cent of the country’s agricultural GDP. And in Kenya, cooperatives have cornered 95 per cent of the cotton market.
Accumulated research shows that while small farmers acting alone were not able to take advantage of market opportunities (higher food prices), small farmers acting collectively succeeded. What makes cooperatives so effective? It amounts to team work, bargaining power, and economies of scale. When you work together, you can achieve things that would otherwise be impossible.
Have something to say about food producer cooperatives? Join the discussion on EndingHunger Facebook and Twitter. Looking for a way to celebrate World Food Day?  Think about supporting co-ops in your area.

Saturday, March 30, 2013

كتاب جنة الإخوان - عن رحلة الخروج من الجماعة للكاتب سامح فايز Out of Muslim Brotherhood Heaven






قال سامح فايز مؤلف كتاب الخروج من جنة الإخوان: إن كتابه يتناول فكر الجماعة ورحلته معهم، حيث إنهم اختطفوه منذ طفولته وغرزوا بداخله الفكر الإخوانى، وبان عدو الفكر الإسلامى كافرا.

وأضاف فى لقائه ببرنامج "بلدنا بالمصرى" مع الإعلامية ريم ماجد على قناة on tv أنه ابتعد عن الجماعة فكريا وحركيا منذ 2004 وقرر كتابة تجربته معهم عقب ثورة 25 يناير.


سامح فايز.. الذى رفض أن يدار بالريموت كنترول

مقدمة : ثروت الخرباوى

سامح فايز ، شاب من شباب مصر ، حين تراه ستدرك لماذا نجحت الثورة فى الإطاحة بمبارك ، ستدرك أن هناك جيلًا لم يقبل الثوابت التى تربَّت عليها أجيال كثيرة ، فقرر أن يثور على النمط الاستبدادى الذى عاش وعشش فى العقول والأفئدة ، لم يخشَ هذا الجيل من شىء، لم يبكِ على مكتسبات أو مصالح ، لم يفكر فى التذلّف للحاكم كى يحصل على عقد عمل أو سكن ، لأنه لا يوجد من الأصل عمل أو سكن ، ولأن الحرية عند هذا الجيل أثمن من الأشياء التى ظللنا نراها وكأنها الدنيا ، الحرية التى لم نعرفها تاق لها هؤلاء الشباب ، ومن أجل الحرية ذهب إلى الموت بإرادته ، كتب شهادة وفاته ولم يقبل أن يكتب عقد زواجه فى ظل الاستبداد ، ذهب للشهادة فى سبيل الحرية كما كنا نذهب إلى دور السينما ، نجح هؤلاء الشباب فى ما فشلنا فيه .

ولأن سامح فايز فوق أنه مصرى كان إخوانيًّا منذ طفولته ، إلا أن طبيعته الفتية الثائرة وقفت حجر عثرة أمام عسكرته وتحويله إلى « إنسان آلى » يدار بالريموت كنترول ، لذلك كان يجب أن يثور على صور الاستبداد التى تحكَّمت فى الجماعة باسم الدين ، كان يجب أن يثور على عسكرة الجماعة ، وتحويلها إلى فرقة شبيهة بفرق الأمن المركزى ، دخل سامح إلى « الإخوان » قبل أن يستقيم عوده وينضج تفكيره ، وبدأت رحلة تحويله من إنسان إلى أداة إلى آلة تساوم بها الجماعة وتشهرها فى وجه خصومها وتهادن بها النظام حينًا وتهدده بها حينًا آخر ، ولكن سامح قرأ قول الله سبحانه وتعالى « اقرأ » فقرأ ، ومن القراءة كانت المعرفة ، تلك المعرفة التى كانت وسيلة سيدنا آدم وهو يلج طريقه على الأرض ، فقد علَّمه الله الأسماء كلها ، والأسماء هنا كانت معرفة الشىء وطبيعته وكنهه ، وفعل سامح فايز مثل جده الأكبر آدم عليه السلام ، حاول أن يتعلم الأسماء كلها ، فعرف الحرية ، والكرامة ، والإنسانية ، والثورة ، والوسطية ، والاعتدال ، والفهم ، فتنوعت معارفه واطلع على ثقافات مختلفة من شتى البقاع الفكرية فكان عصيًّا على الاستخدام ، عصيًّا على البرمجة المقيتة .

لم يكن سامح فايز فى رحلته الإخوانية سهلًا طيّعًا ، ولكنهم كانوا يظنونه شابًا مشاغبًا مزعجًا ، وكان مرد هذا الظن أنه كثير السؤال ! كثير الاستفهام ، وهذه أشياء تقدح فى إخوانيته ، فكان أن تسلَّق سور الجماعة ونظر إلى العالم الذى كان يظنه عالم الأشباح ، فإذا به عالم من لحم ودم ، حياة إنسانية بكل معانيها ، غاب عنها وغابت عنه ، عرف وقتها أنه كان يعيش فى عالم الأشباح ، فقرر أن يقفز من سور الجماعة ، وولى هاربًا لا يلوى على شىء ، فقط قرر أن يكون مصريًّا خالصًا ، يختلط إسلامه مع مصريته فيصبح مصريًّا سائغًا لا مثيل له ، وحين ترك عوالمه الأولى وانضم إلى العالم الحقيقى قرر أن يكتب تجربته ، لم يقصد سامح من كتابة تجربته ذمًّا ولا تجريحًا فى الجماعة ، فقد كان بينه وبينهم نسب إنسانى وصهر مشاعرى ، من بين الإخوان شيخه الذى يحترمه وصديقه الذى رافقه ، كانت بينهم الكلمة المقدسة لدى المصريين وهى « العيش والملح » ، سامح فايز لم يترك حبه القديم لهم ، فما زال يحبهم ، يترنّم حينًا بصوته الجميل المطرب بأبيات الشعر : « نقل فؤادك ما استطعت من الهوى.. ما الحب إلا للحبيب الأول ».

ولكن هل يمنع الحب الإنسان أن يكتب تجربته الإنسانية ؟

التجارب الإنسانية هى التى ترتقى بالبشرية ، وبغيرها نكون جمادًا لا يستطيع أن يحرك شيئًا ، ولفقدنا الدفء والتواصل ، ولما استطعنا أن نكتشف أخطاءنا ، ونصحح مسارنا ومصائرنا ، تجربة سامح التى وضعها فى الحلقات هى محض تجربة إنسانية يرد عليها كل ما يرد على معارف البشر من صواب وخطأ ونسيان ، فمعارفنا كلها نسبية ، ولا يستطيع أحدنا فردًا كان أم جماعة أن يكون مطلقًا ، أو أن تكون معارفه مطلقة ، لذلك كان سامح حريصًا على أن يؤكد أنه لا يهاجم ولا يجرّح ، ولكنه يحكى « حدوتة مصرية » بسيطة لشاب مصرى استجاب إلى نداء الندّاهة فذهب إليها ، ولكنه عاد إلينا مرة أخرى ، وحين عاد ، عاد ليحكى .

*****************************************

الحلقة الأولى
كان إخوتى من المترددين على لقاء الجماعة فى المسجد طمعًا فى جائزة الإخوان اليومية
هكذا تُجنِّد الجماعة الأطفال فى صفوفها

حضر شهر رمضان ، كانت جماعة الإخوان المسلمين تقيم لقاء يوميًّا فى المسجد بعد صلاة العصر يتبارى فيه الأقران ويتسابقون . أطفال فى عمرى وأصغر أو يكبروننى بعام أو عامين. كان إخوتى من المترددين على هذا اللقاء ، طمعًا فى جائزة الإخوان اليومية ، غير أنهم كانوا يعجزون عن إتيانها والأيام تمر ، ويقترب معها انتهاء الشهر وضياع الأمل .

أخى الأكبر طلب منى أن أصاحبهم فى أحد تلك الأيام الرمضانية ، كان يعلم جيدًا أننى أقدر على الإتيان بالجائزة ، وكان الأمر يمثل تحديًّا بالنسبة إليه هو وأخى الأوسط ، كم كانت تلك الأمور تُدخل السعادة إلى قلوب الأطفال ، كنا نقنع بأقل القليل وكأننا احتوينا الدنيا بين أذرعنا .

كنت لا أزال أخشى من المواجهة ، من بصقة أخرى ، وكنت أضيق بتلك الرعشات التى تعترينى ، وهذا الخيال الحالم الذى يأخذنى من عالمى .

بعد طول إلحاح ذهبت ، قلت أذهب لأتخلص من هذا الإصرار ، وليس من الحتمى أن أشترك فى أى مسابقة ، لأجلس بعيدًا عنهم أتابعهم وهم يتبارون ، غير أنى مع أول قدم وضعتها داخل المسجد شعرت بهذا الذى اخترقنى ، لكن لم أجد له ترجمة حتى اللحظة . الغريب أن هذا الإحساس يخترقنى فى كل مرة أعود فيها إلى المسجد حتى اللحظة .

كانوا يجلسون فى شكل منظم ودائرى ، ويتوسط الدائرة شاب فى العقد الثالث من عمره ، وتعجبت كيف يتأتى لهذا الشاب أن يتحكم فى هذا العدد من الأطفال وينظمهم فى دائرة لا يخرج عنها أحد ؟

هل الشاب هو من يمتلك تلك القدرة ، أم أنه إحساس الإجلال الذى يُغلّف الدين ، ويعطى كل ما له علاقة بالأديان قدسية تجعلنا نذعن ، دون أن ندرى لماذا ؟

أخذت مكانى فى الدائرة ، كنت على يسار الشيخ ، اعتقدتُ أن الأمر يبدأ وينتهى بمسابقة ، غير أن ما حدث كان مختلفًا ، بدأ الأمر بآيات من القرآن نقرؤها بشكل متتابع ، كل منا يقرأ بضع آيات ثم يترك الأمر لمن بجواره ليقرأ ، حتى تفْرغ الدائرة كلها من القراءة ، ثم بعد ذلك أخذ يقص علينا الشاب بعض القصص عن أصحاب هذا النبى الذى ظهر بمكة ، وكيف أنهم تحملوا الصعاب من أجل نبيهم ودينهم الجديد ، وأنه ما من أحد منهم بخل بماله أو نفسه فى سبيل إعلاء هذا الدين .

كان الشيخ يتحدث وكأنه يحادث نفسه ، لا أظن أن أحدهم يعى ما يُقال ، أو أن الحاضرين ما جاؤوا لأمر غير الجائزة والمسابقة ، غير أنه أعجبنى ما قيل ، هل لاقى الأمر صدى فى نفس يعقوب ؟

هذا الذى بصق عليه أستاذه ولم يدرِ أحدهم ما أصابه من اضطهاد ، ولم يكترث أحدهم إن كان ظالما أو مظلوما ، هل شعر بتواصل مع هؤلاء المضطهدين قديمًا ؟

نحن نشترك فى إحساس واحد، وهو أننا نواجه هؤلاء الصم البكم الذين لا يشعرون .

انتهى الشيخ الصغير من أوراده وأذكاره وقصصه وقرآنه ، وقربنا على الذهاب ، قلت لنفسى وأين المسابقة ؟ غير أنه تابعنى بإعلان وقت المسابقة وكأنه سمع ذاك الذى دار فى مخيلتى .

أطلق الشيخ السؤال ، وكنت قد عاهدت نفسى أن ألتزم الصمت ، لن أشترك ، أو هكذا أوهمت نفسى ، فلا زالت نظرة مدرس الدين وبصقته تعلقان بذاكرتى ، وها هى ذى الرعشة بدأت تدب فى أطرافى ، ودقات قلبى تتزايد وكأنى مقدم على قتل أحدهم .

حاول أخى دفعى إلى الإجابة ، إلا أنى أبيت . كنت أتابع الشيخ وهو يقلب ناظريه بين الأطفال متلمسًا من سيعطى الفرصة للإجابة ، بيد أنى اعتقدتُ أننى فقط من كنت أتابعهم بشغف .

كان أحدهم يجلس بجوار الشيخ يتابعنا هو الآخر ، ظل صامتًا طوال الجلسة ، وكأنه حضر خصيصًا لينتقى شيئًا ما .

كان يقلب عينيه فينا طوال الجلسة ، وبين الحين والحين كان يعلق عينيه معى قليلا . لاحظته وهو يلكز الشيخ موجهًا بصره ناحيتى ، معلمًا إياه أننى صاحب الحق فى الإجابة ، لاحظت تلك اللفتة السريعة التى لم يلحظها أحد سواى .

أشار الشيخ إلىَّ رغم أنى لم أشارك الأطفال فى رفع يدى مثلهم طالبا الإذن بالإجابة . كان السؤال غير ذى صعوبة ، فأجبت عنه ، وكان ذلك إذنا بالحصول على الجائزة .

أثارنى هذا التشابه فى حياة من يقصُّون قصصهم وحيواتهم ، فكلنا مضطّهدون من هذا المجتمع الجاهل ، وشعرتُ بالقوة وقد دبت فى أوصالى من جديد ، وتركتنى الرعشة وخفت ضربات القلب ، قررت حينها أن لا أتركهم ، غير أنى علمت بعد ذلك أنهم هم من قرروا أن لا يتركونى .

هل وجدت فيهم القوة من بعد ضعف ، أم أن استمتاعى بإحساس المضطّهد جعلنى أقرب إليهم ؟ منا من يتلذذ بهذا الشعور ، شعور الشهيد ، البكاء ، النحيب ، الإحساس أنك أنت وفقط من تدرك بواطن الأمور ، والباقون فى الجهل سواء ، ألهذا السبب أردت أن أكون مع هذا الفصيل ، أم أن الخوف من القيادة والتصدر النابع من وقع بصقة أستاذى جعلنى أعشق حياة التابع ؟

جماعة وشيوخ يتصرفون فى كل أمر ، وفى النهاية يشعرونك أنك من أحدثت الفارق والتغيير ، غير أنك فى الحقيقة ما أحدثت شيئًا ، هل أحببت نظرة الاهتمام تلك التى صدرت عن هذا الجالس بجوار الشيخ ؟ ربما .

كان صاحب تلك النظرة هو المسؤول عنى لثلاث سنوات قادمة ، أدركتُ أن الدائرة التى انتظمت فى المسجد تتلاشى فور أن نخرج من المسجد مع تلاشى قدسية المكان ، فالمسلم فى المسجد يكون فى حال غير التى يكون فيها خارجه ، ولهذا فلم يتبق سواى أنا وبضعة أطفال تم اصطفاؤنا لتستمر الدائرة خارج المسجد ، كنا نجتمع فى بيت الشيخ بشكل دورى مرة كل أسبوع ، وتلك ما يطلق عليها الأسرة ، لا أنكركم القول ، كانت أيامًا من أرقى وأطهر أيامى ، روحانيات ، أوارد ، أذكار ، صلوت وأدعية ، ودمعات تتساقط من روعة هذا الإحساس الذى يختلج الصدر ، وأنت منتصب القامة فى صلاة الفجر تستمع إلى تراتيل القرآن بشغف ، أن تجد هذا الطبيب الذى يغسلك من أدرانك فى اليوم خمس مرات ، أن تجد هذا القوى الذى تستند إليه فى المُلمات ، أن تؤمن بتلك الغيبيات التى تجعلك على يقين أن فقر الدين وصعوبة العيش إن اصطحبتْ برضا النفس ، فهناك خلف الحُجُب جنة ونعيم ورضا رب غير غضبان .

كنا فى عالم غير العالم ، وبين أناس غير الأناس ، ونحيا إحساسًا اندثر فى خارج الدائرة ، أو هكذا صوِّر الأمر لنا ، لهذا كنت أخشى أن أطرد منها ، أو حتى أنظر خارجها .

انتهيت من الصلاة وخرجت من المسجد أنتظر الشيخ وأصدقاء الأسرة أو إخوتى فى الله كما نكنَّى داخل الدائرة ، فدائمًا ما يسبق التعريف بالشخص كلمة « أخوك فى الله » فلان ، حتى يصبح بديلا عن أخيك فى الحقيقة ، ولهذا نُسمَى أسرة ، فهى الأسرة المنتقاة البديلة عن أسرة الجاهلية خارج الدائرة التى نحياها .

أثناء انتظارى وجدتُ أحدهم يفترش الأرض بالكتب والأشرطة الدينية أمام المسجد ، كنت أهوَى القراءة ، فجذبنى منظر الكتب .

أدرتُ ناظرى فى تلك العناوين المعروضة للبيع ، حتى سقطتْ عيناى على كتيب صغير للأطفال بعنوان سيرة الإمام الشهيد حسن البنا .

اشتريت الكتاب على الفور ، وذهبت لشيخى مسرعًا إثر رؤيته لأطلعه على الكتاب الذى يحوى سيرة الإمام الأول لتلك الجماعة .


اعتقدتُ خطأ أنه سيفرح بتلميذه الذى يحمل سيرة الإمام الشهيد حسن البنا ، غير أنه قد حدث العكس تمامًا ، غضب الشيخ وعنفني ، وطلب مني أن أعيد الكتاب وأن لا أقرأ تلك النوعية من الكتب .

كان يتحدث بغلظة ، وكأن بينه وبين حسن البنا عداوة مسبقة . تركتُ شيخى على اعتبار أني ذاهب لأعيد الكتاب للبائع ، إلا أنني لم أمتثل لكلماته .

احتفظت بالكتاب على غير علم الشيخ ، ومنذ تلك اللحظة أضحت لدىّ حياتي السرية التي تسير بالتوازي مع الدائرة التي نحيا داخلها ، فأنا داخل الدائرة إنسان ، وخارج الدائرة إنسان آخر ، يحيا عالمه السري الذى يضم كل الممنوعات ، كنت متمردًا لا أحب الانصياع في أحيان كثيرة ، وفي نفس الوقت كنت أعشق الحالة التى تعتريني داخل الدائرة ، تلك الهالة النوراية التي تسمو بنا وتجعلنا ننظر إلى العالم من أعلى .


عندما قرأتُ الكتاب وأدركتُ كم كان حسن البنا المؤسس الأول للجماعة نبيلا وشهمًا ، وكيف أنه مات في سبيل أن تبقى جماعة الإخوان ، دار في نفسي هذا السؤال : لماذا غضب مني الشيخ وأنا أحمل بين يدىّ سيرة المؤسس الأول لتلك الجماعة التى تنظم دوائرنا ؟

غير أن الإجابة ليست ببعيدة المنال ، التربية داخل الإخوان تقوم على التدرج ، بل إن الإسلام نفسه قام على التدرج في الحدود والتكليفات والنواهى والأوامر .

في البداية تؤصل لديك عقيدة حب الله وحب الإسلام ، عشق هذا الدين ، ولكنه عشق ينبع داخل دائرة الإخوان وبعين الإخوان ، وينشأ الطفل على حب الدين كما أحبته الجماعة ، ويدين بالفضل لهؤلاء الذين انتشلوه من الضياع ، وفي تلك اللحظة التي تتمازج فيها الدعوتان ، دعوة الإسلام ودعوة الإخوان ، حتى لا تراهما إلا دعوة واحدة تبدأ التكليفات ، فتجد نفسك لا إراديًّا وأنت تدافع عن الجماعة ، كأنك تدافع عن الإسلام ، وعندما تدافع عن الإسلام فكأنك تدافع عن الجماعة ، فلا تغضب من هذا الشباب الإخوانى الذى لا يمل أن ينفى عن نفسه تهمة تكفير الآخر ؛ لأنه فعلا لا يرى فى خطابه نبرة تكفير ، لأنه يظن أن خطاب الجماعة والإسلام منفصلان، علمًا بأنهما فى عقله الباطن خطاب واحد .

وقد يُكفِّرك وينفى أنه كفَّرك لأنه لا يدرى ما قال ولا ماذا يقول ؟ هو يردد وفقط ، وبما أن القائد لا يخطئ فمن المؤكد أن الخطأ ليس فى من أطلق لفظة الكفر ، إنما الخطأ فى الكفار ، لأنه لا يتقبل مجرد أن تقول له أخطأت الجماعة ، ذلك أن الإسلام والجماعة لا ينفصلان ، فلو شعر للحظة أن الجماعة أخطأت ، معنى ذلك أن الخطأ والقصور في الدين ، وهذا الاعتقاد ، في حد ذاته ، يخرجه من دائرة الدين إلى عالم الكفار . أما أنا فقد خرقت هذا الناموس بمحاولتى قراءة التكليفات من خارج الدائرة ، وقبل أن يحين الأوان .


مزج المفهومين - مفهوم الدين ومفهوم الجماعة - بالإضافة إلى مفهوم آخر هو مفهوم الأسرة ، هو سر بقاء الجماعة حتى اللحظة ، بعد كل تلك المحن التى مرت بالجماعة ، بل وتبقى قوية ذات جذور تدب في أوصال المجتمع ، فالشيوعية تبقى بعد كل تلك المحن والعلمانية تبقى ، غير أنها تيارات نخبوية تبقى للمثقفين وشراذم متبقية من رجالات الماضي وذرياتهم وفقط .

ومصطلح الأسرة هذا لا يقل أهمية وخطورة عن مصطلح الدمج بين مفهوم الدين والجماعة .

أنت تعطينى بديلا عن الأسرة ، الأخوة فى الله أمر مقدس لدى الجماعة ، وبمجرد أن ترغب في الزواج تتزوج من فتاة إخوانية ، فالإخواني لا يتزوج من خارج الدائرة والإخوانية كذلك ، فيصير للإخوان خطة بديلة في حالة أن فَتَر إيمان أحدهم ولم يعد يكترث بالدين ، وبذلك تضمن ولاءه طالما أنه داخل الأسرة ، فلو عصى أحدهم ، فمن الطبيعى أن يترك المسجد ، غير أنه من غير الطبيعى أن يترك إخوته وزوجته وأسرته ، فهم يصبرون عليه ويعملون على إعادته إلى حظيرتهم مرة أخرى ، لذلك من العسير أن تجد منشقين عن الإخوان يمثلون عددًا ، هم أفراد قد تحصيهم على صوابع اليد الواحدة ، ومعظمهم يترك الجماعة ، إما فى مرحلة البناء قبل أن تتمكن الجماعة وعقيدتها من عقله ، وإما فى مرحلة الهِرم ، ذلك أن خبراته الحياتية تعطيه بديلا عن العقل الذى ضيّعته الجماعة مع أهليته المسبقة للتفكير ، فينشق عنهم .

أذكر أحد من كانوا إخوتى فى الله داخل صفوف الجماعة ، وكان ممن انشق معى فى آن واحد ، غير أن مفهوم الانشقاق اختلف .

تركي للجماعة كان فكريًّا وصراعًا مع العقل في الأصل ، أما ترك أخي هذا للجماعة فكان في الأصل إرضاءً للنزوات والشهوة ، كان انصياعًا للمعصية .

انغرس هذا الشاب في عالم الشهوة من نساء وجنس وغيره لما يقرب من السنوات الثلاث ، غير أنه في النهاية عاد ، إعادة مفهوم الأسرة والإخوة في الله ، ذلك أن بيئته الاجتماعية كلها كانت إخوانا ، أما أنا فكنت الإخواني الوحيد ليس في أسرتي وفقط ، بل فى عائلتى كلها .

أذكر أنني قابلتُ هذا الشاب قبل انتخابات الإعادة لرئاسة الجمهورية ولمست فيه حماسة للدفاع عن الدين ومحمد مرسي وغضب من موقفي لأنني قررتُ إبطال صوتي ، وفي أثناء حديثه تذكرت تلك المرة التي حكى لي فيها عن تلك الليلة الحمراء التي أحضروا فيها المخدر والمومسات لشقة أحدهم وتناوب أصدقاؤه ممارسة الجنس معهن حتى حل دوره ، وعندما وجد نفسه في أحضان إحداهن تتماس الشفاه وترتجف الأعضاء من فرط اللذة ، وبمجرد أن أضحى بين فخذيها شعر وكأن هناك حائطًا يحول بينه وبين إكمال متعته ، وكأن صوتًا يناديه فخرج من مكانه مسرعًا وعاد لحظيرة الأسرة .

وسألت نفسي حينها : هل أبى لأن الزنى حرام ؟ غير أني ما لبثت أن قلت لنفسي : ولكن المخدرات أيضًا حرام ، والقبلات ، والتلامس ، والارتشاف من جسد الفتاة ، كل ذلك في مقام الزنى ، وإن لم يحدث إيلاج للأعضاء ، غير أن هذا الأمر لا يُسطّر فى بضعة أسطر ، سأترك فصلا كاملا للحديث عن الأمر ، عن الجنس والإخوان ، ولا تندهشوا ، فهذا صراع فى حياتى كان أشد من صراع العقل ، وكان له الدور الرئيسى فى تركى لهذا الدين الجديد ، دين الإخوان المسلمين .







الحلقة الثانية


على مقهى زهرة البستان جمعتنى ليالى التحرير بمجموعة من الأصدقاء . دار نقاش خفيف بيننا ما لبث أن تشعبت خيوطه ، وكان محور النقاش السؤال المعتاد الذى لا يمل الآخرون من طرحه على مسامعي : لماذا تركت الإخوان المسلمين ؟

كنت أجد فى عينَى طارح السؤال لهفة لاختراق هذا العالم الغيبى الذى هو حكر على أعضاء جماعة الإخوان المسلمين . قد تقرأ عن الإخوان بالمدح أو الذم ، لكن أن تتحدث مع إخواني سابق ومسترد من تلك الجماعة - التي من الصعب أن يخرج من ربقتها أحدهم - فهذا أمر آخر .

في البداية كنت أتجنب الخوض في هذا الأمر ، كنت أهرب من الإجابة عن السؤال بدعوى أننى أحترم أيامي مع هؤلاء ، وأنني لا أود أن أتحدث عن أناس جمعتني بهم أخوة في يوم من الأيام ، حتى سألنى صديقي الدرعمي والباحث في دار الإفتاء مصطفى ثابت وأصر على انتظار الإجابة .

أردت حينها أن أهرب من الإجابة كعادتي ، غير أن ذلك لم يروِ ظمأ السؤال لدى صديقي الدرعمي ، فأخذني بقدرته الحوارية التى يبهرني بها دائما يمينا ويسارا ، محاولا استخلاص الأمر من بين ثنايا الحوار ، وفي أثناء هذا النقاش الذي طال لأكثر من ساعة أدركت أنني لا أملك إجابة من الأصل على السؤال ، وأنني طوال تلك السنوات التي مضت لم أكن أملك حيال الأسئلة التي طرحت علي أي إجابة ، أو حتى مشروع إجابة ، وبدأت أسأل نفسي هذا السؤال : لماذا تركت الإخوان المسلمين؟!


قد تكون الإجابة غير ذات أهمية لكم ، فمن أنا كي تعيروني انتباهكم ؟ وما الذي يزيدكم أو ينقص أحدكم إن علم إجابة هذا السؤال الخطير ؟ واسترجعت الكلمة التي كثيرا ما قالها لي أستاذي ومعلمي الأستاذ أحمد صبري أبو الفتوح ( ما تحاولش تعيش دور الشهيد ) حينما كنت أُكثر الحديث عن وجودي في صفوف الجماعة وما نالني منهم من أذى فكري ، فكان يُعقب أنني يجب أن أنسى تلك الأيام وأن لا أحاول أن أحيا دور المضطهد الذي خسر من عمره سنوات بين جدران تلك الجماعات ، فالحياة ما زالت أمامي ويجب أن أخرج من أسْر تلك الأفكار لأبني عالمي الخاص ، غير أني الآن في حاجة إلى معرفة الإجابة فعلا ، كيف ضاعت مني تلك السنوات داخل الجماعة ؟
وكيف ضاعت مني سنوات أخرى وأنا أحاول أن أتخلص من قيدهم ؟ لمَ كان كل هذا العناء ؟ أدركت أنني لن أبدأ حياة جديدة إلا إذا علمت لماذا تمردت على حياتى القديمة ، لماذا اعتليت سور هذا المعسكر وفررت من هذا الجيتو الذي يحيا داخله أعضاء جماعة الإخوان المسلمين ؟!


اعتبروها حالة أعبر فيها عن نفسي كتلك التي نسطرها على حائطنا الشخصي على « فيسبوك » ، لكنها حالة طويلة نوعا ما ، طويلة بما يتناسب مع 10 سنوات قضيتها بين جدران الجماعات الإسلامية على وجه العموم .

عندما عدت بذاكرتي إلى الوراء وجدت أنني لم أنضم إلى جماعة الإخوان المسلمين كما ينضم أحدكم إلى تيار فكري أو حزب سياسي أو توجه معين ، أنتم تختارون هذا الفصيل الذي تريدون أن تحيوا داخل جدرانه ، أما نحن كإخوان مسلمين فجماعة الإخوان في الغالب دائما هي التي تختار .

أخبرني شيخي بعد سنوات من تركي الجماعة أن التعليمات جاءت لهم بحتمية إعداد جيل جديد يحمل راية الجماعة مستقبلا .
كان ذلك في عام 1995 ، وكنت ممن تم اختيارهم وأنا ما زلت طفلا في الحادية عشرة من عمري ، لم يشغل أبي باله بالأمر ، فأن يرى طفله الصغير يصلي ويقرأ القرآن ويقيم الليل فإن هذا لحبيب إلى النفس . لم أدرك حينها الآلية التي تتعامل بها الجماعة مع أعضائها . كان من الصعب على الطفل الصغير إدراك أن تلك الأوراد والأذكار والصلوات والكتيبات التي امتلأت بها جدران مكتبته الصغيرة ليست في الأصل كي يصير شيخا تقيا ، إنما هي وضعت ليكون إخوانيا مطيعا .

فى محاضرة للمهندس محمد عادل بساقية عبد المنعم الصاوى بعنوان « العسكر والدولة » ، تحدث عن علاقة العسكر بالدولة ، وأجاب عن السؤال الذي يشغل بال الجميع عن كيفية التحكم في تلك الآلة العسكرية الوحيدة التي تملك القوة داخل المجتمع ، والتي من الممكن أن تنقلب في أى لحظة على نظام الحكم المدني لتصير هى الحاكم .

كان المحاضر يجيب عن آليات تلك السيطرة ، التي أخذتني بعيدا عن العسكر بمفهوم المحاضرة إلى العسكرية بمفهوم جماعة الإخوان .

تحدث المحاضر عن آليتين لهما الفضل في الإبقاء على تلك الآلة بعيدا عن الانقلاب على مدنية الدولة .
الآلية الأولى : قتل القدرة على الإبداع والتفكير ، أنت مجرد آلة قوية يستخدمها النظام الحاكم وقت أن يكون فى حاجة إلى قوة تحمى الدولة ، فلو أن هذا الجندي أعمَلَ عقله وأطلق لإبداعه العنان لكان خطرا على مدنية الدولة .
وطرح المحاضر يوليوس قيصر نموذجا، هذا القائد الروماني الذي تمكن أن يقضي بانقلاب عسكري على ديمقراطية 500 عام ، واستدل على ذلك بأن الكليات العسكرية وكليات الشرطة لا تشترط في المتقدم مستوى عقليا أو قدرات معينة .

بإمكانك أن تلتحق بكلية الشرطة أو الكليات العسكرية بأدنى الدرجات ، هم فقط يركزون على القوة البدنية ، أيضا أنت مطالب بأن تنعزل عن العالم - في سن من المفترض فيها أن قدرتك على التفكير والإبداع في طور التمهيد لبلورتها - لتجد نفسك داخل معسكر لمدة أربع سنوات ، ويمنع عليك أن تصطحب معك داخل أسوار هذا المعسكر أي كتب فلسفية أو فكرية أو كتبا تحمل أي نظريات قد تدفعك إلى الثورة على النظام أو الانقلاب عليه .

الآلية الثانية : التي تحدث عنها محمد عادل هي الفاشية بمعنى تقديس القائد ، فأنت تربي الجندي على الطاعة العمياء وتقديس القائد ووضع رؤية القائد في مصاف الكمال ، فهو لا يخطئ ، بل لا يمكن أن يخطئ . وأورد القصة الشهيرة لمحاولة اغتيال هتلر على أيدى بعض جنرالاته وكيف أن الجنرالات أخبروا روميل بالأمر أنه أبى أن يشترك معهم في اغتيال قائده - رغم إدراكه حجم تلك الهاوية التي يجذب هتلر ألمانيا صوبها - وقال لهم إن نجحت عملية الاغتيال واحتاجت ألمانيا إلى روميل فأنا مستعد لتلبية النداء .
العجيب في الأمر أن روميل هذا القائد العظيم لم يبلغ عن رفاقه ، ولم يشترك معهم على النحو الآخر في محاولة الاغتيال . لم تواته القدرة على اغتيال قائده .

كان الحضور في ساقية الصاوى يحيون في عالم العسكر ، وكنت أنا أحيا في واد آخر ، هو عسكرة الإخوان .

العزلة التي تفرض على شباب الإخوان لها قدرة على قتل أي إبداع أو قدرة على التفكير . هم يخلقون لك عالمك الخاص والعام .
أنت تعيش في تجمع من بضعة أفراد يطلقون عليه أسرة ، بديل لك عن أسرتك الحقيقية ، ودائما ما تصف أعضاء تلك الأسرة بلفظ أخيك فلان ، وأخي فلان ، فهم إخوتك في الله ، وتلك الأسرة تحيطها أسر أخرى متعددة تمثل عائلتك ، وهي أقرب إليك من أي كائن أيا كان .

قد تجد أنك تعيش بين المئات من الأفراد بل الآلاف ، غير أنك في الحقيقة تعيش في معسكر مغلق على نفس الفكر والنهج والآلية .
أنت لا تدرك أن هناك خارج هذا العالم عوالم أخرى ، بل أنت لا تتخيل أن هناك من الأصل عوالم أخرى .

وللإخوان تفسير غريب لهؤلاء الذين يخالفونهم ويحيون خارج أسوارهم ، فهم يصنفون غيرهم صنفين لا ثالث لهما .
إما عميل للنظام الكافر الذي يحارب الإسلام المتمثل فى جماعة الإخوان (أمن دولة) ، وإما علماني كافر يدحض الدين .

أنت لا تقرأ سوى كتب الإخوان التي كتبها الإخوان عن الإخوان ، ولا تصلي إلا في مسجد الإخوان الذي أنشأه الإخوان للإخوان ، ولا تتزوج إلا الإخوانية التي نشأت في أسرة تربت على نهج الإخوان ، حتى الرحلات ، هي تجمعات من الإخوان تركب سيارة يملكها الإخوان لتذهب إلى معسكر أعده الإخوان من أجل الإخوان .

أذكر يوم أن رآنى شباب من الإخوان وأنا أحمل رواية الأديب نجيب محفوظ « أولاد حارتنا » . حينها علتهم الدهشة من هذا الشاب الإخواني الذي فتر إيمانه ، كيف له أن يقرأ تلك الرواية الكافرة التي مثلت الإله والأنبياء ؟ بل كيف له أن يقرأ رواية من الأصل ؟

والفاشية تظهر بوضوح في هذا النظام الهرمي الذي أسس له حسن البنا في تشكيل الأسر والشعب والمناطق فالمحافظات حتى نصل إلى مكتب الإرشاد.

كل أسرة ( كتيبة لدى العسكر ) مكونة من بضعة أفراد يتحكم فيها قائد ، وكل مجموعة من الأسر تشكل شعبة ( لواء لدى العسكر ) وكل مجموعة من الشعب تمثل منطقة فمحافظة ( جيش لدى العسكر ) وكل فرد مطالب بطاعة الذي يعلوه دون رد ، فالأمر قد جاءهم من مكتب شورى الإخوان الذي لا يخطئ أبدا ، وإن تجرأت بالسؤال فأنت معرض للتحويل إلى مجلس تأديب ( حول نفسك مكتب يا عسكرى ) ، وقد تحاكم ( عسكريا ) لتفصل من الجماعة ( ولا طعن أو تظلم فى المحاكم العسكرية ) .

تلك التربية قد وضعت خصيصا لقتل مواطن الإبداع والنقد لدى شباب الإخوان ، وأيضا لتقديس مفهوم القائد . أخبرني صديق أن الإخوان حضروا في التحرير إثر صدور الحكم على مبارك ومعاونيه ، بعد أن وصلتهم رسالة على الهاتف المحمول محتواها أنه على الجميع أن يوجد في ميدان التحرير الآن ، ورغم أني لم أتشكك في الأمر لمعرفتي بهم فإنني أردت التأكد بنفسي ، فسألت أحدهم هل يعتصم اليوم في الميدان ؟ فأخبرني أنه ينتظر الأمر . أو بمعنى أدق ينتظر رسالة تأتيه على هاتفه المحمول ، قد يتعارض هذا الأمر مع مصلحة الوطن وقد يتفق ، غير أن تنفيذ الأمر له الأولوية هنا .

محاضرة المهندس محمد عادل وسؤال الصديق الدرعمي هما اللذان أجابا عن السؤال : لماذا تركت جماعة الإخوان المسلمين ؟!

أنا لم أترك الإخوان لأن هناك خلافا فكريا أو أني ناقشتهم ، أو دار بيني وبين أحدهم حوار ، ذلك أن تلك الأمور لم تكن متاحة من الأصل . لقد تركت الإخوان لأني تسلقت السور الذى أحاطونا به في معسكراتهم وتطلعت إلى تلك العوالم خارج هذا السور ، مثلا كان اكتشاف سور الأزبكية بكتبه بمثابة اكتشاف كولمبس لقارة أمريكا .

أخيرا قرأت عن الإخوان من خارج أدبيات الإخوان ، خرجت فى رحلات غير رحلات الإخوان ، بل ومختلطة نساء ورجالا ، أدركت أكذوبة أن الجميع أمن دولة ، وأن الآخر علماني يدحض الدين بالضرورة ، تلمست الطريق لزهرة البستان والندوة الثقافية وسوق الحميدية وساقية الصاوى ومكتبات وسط البلد ، قرأت عن الزعيم الراحل عبد الناصر فلم أجد أنه كافر زنديق كما قرأت فى أدبيات الإخوان ، واكتشفت هذا الاكتشاف الرهيب وهو أن سعد زغلول زعيم وطني وليس عميلا لأوروبا التي أرادت وأد الهوية الإسلامية ، وأن هناك يسارا وليبرالا وأحزاب وسط وآخر يعيش من أجل مصر والوطن ، نعم مصر ، تلك الكلمة التى كنت أجهلها ؛ ذلك أني لم أكن أحارب إلا من أجل الخلافة والتي عاصمتها مكة ، وكان الطريق لذلك تحرير القدس وقتل اليهود ، لقد اكتشفت أنني أعرف عن فلسطين أكثر مما أعرف عن المحافظة التى أقطنها .

قد يختلف أحدكم معي أو يتفق ، لكن ما حدث من مسؤول الأسرة التي كنت أنتسب إليها في « الإخوان » - بعد سنوات من تركي الجماعة - يؤكد طرحي هذا ؛ ذلك أني فى إحدى المرات أوقفته في الطريق وطرحت عليه هذا السؤال الذي كثيرا ما آلمنى : لماذا يدير وجهه كلما رآني ولا يرد سلامي ؟ وبعد ضغط أخبرني أنني تركت الجماعة وبهذا قطعت كل الصلات ، قلت له : غير أنك أستاذي الأول ولك أدين بالفضل ، فبادرني قائلا : كنت أكذبهم في ما قالوا لي عنك إلا أنك خيَّبت ظني ، سألت : ماذا قيل عني ؟ قال : أخبروني أنك لن تستمر فى تلك الجماعة ولن يكون لك شأن معنا .

أدركت حينها أن الإخوان سلبوني حتى آلية ترك الجماعة ، فهم من اختاروني سابقا ، وهم من تركوني أيضا .
وهنا عرفت الإجابة ، فحينما يسألني أحدهم لماذا تركت جماعة الإخوان المسلمين سأرفع رأسي للسماء هنيهة كأني ألملم شتات أفكاري ، وأطيل النظر كأني أستحضر فلسفتي الحياتية ثم ألقي عليه القنبلة التي ينتظرها بشغف قائلا : الإخوان هم من تركوني يا سادة ولست أنا من تركهم .



صورة جماعية للاخوان - تصوير محمد أبوزيد


الحلقة الثالثة

لماذا تركت دين الإخوان .. ورسوله حسن البنا ؟

وسواء كنت تاركًا أو متروكًا ، فالأمر ليس بالهين ، أن تتحلل مما تراه عقيدة ، أن تكفر بالثوابت ، أن تخرج من هذا الطوق الذى أحاط بعنقك سنوات وسنوات ، أن تلفظ الدين كما عرفت ، نعم ألفظ الدين ، فالإخوان فى نظر شبابهم هم ظل الله ، هم الدين ، ومن يكفر بهم فقد كفر بالدين .


لا أجد كلمات لها من القدرة أن تحمل مقدار هذا الألم ، وتلك المعاناة التى ألمت بي ، ولا أجد الكلمات التي تملك القدرة على أن تضع كل من يقرؤني الآن على طريق آلامى وأحزانى .


إنها أوراد وأذكار وصلوات وقراءات ومعسكرات وأيام رباط ، كلها تأخذك دون أن تدري لأن تؤمن بهذا الدين الجديد المسمى دين الإخوان المسلمين ، الذى نبيه ورسوله حسن البنا المؤسس الأول لهذا الدين ، فأنت حين تترك الإخوان كأنك تترك دينًا وليس فكرًا ، تترك الله وليس حسن البنا ، قد يندهش البعض ، وقد يندهش الجميع ، غير أن كل من اندهش من المؤكد أنه لم يكن يومًا عبدًا لحسن البنا .


المكان دائمًا ما يكون المسجد ، الزمان منذ اثنتي عشرة سنة ، الحدث هو مقرأة القرآن التي لازمتها خمس سنوات متتالية ، انتهى موعد المقرأة وغادر الأصدقاء وظللت أنا كعادتي أتأمل .


كنت في تلك الأيام أقضي يومي بأكمله في المسجد لا أغادره إلا بعد إغلاق أبوابه بعد صلاة العشاء . كان قد مضى عام على حالتي تلك . كان أبي سعيدًا بأصغر أبنائه المتديّن ، وكان رواد المسجد أسعد بطالب الثانوى الذي غادر الدنيا ليحيى في كنف الله ، غير أنهم أخطؤوا الرؤية ، بصيرتهم عجزت عن تلمس كوني أغزل أولى حلقات الترك .


شخص واحد أدرك معضلتى هو محفظ القرآن بالمسجد . أن أحفظ سورة البقرة وآل عمران والنساء في ثلاثة أشهر ، ثم أظل في سورة المائدة عامًا كاملًا أدعى لطرح التساؤلات ، ما الذى حدث ؟!


انتظر الشيخ انتهاء المقرأة وذهاب الجميع وسألني ما الذي ألمَّ بي ، بيْد أني لم أكن أعي حينها . كنت ما زلت عبدًا لهم ، والعبد ليس له إحساس أو شعور يعبر عنه ، وهو غير أهل لأن ينتقد ويفكر ، إلا أن السؤال عرف نوعًا ما تلك الحالة الغريبة التي اعترتني مؤخرًا ، نعم هناك أمر جلَل .


تركت المحفظ وتوجّهت إلى القبلة ، صليت ، اعتدلت إثر الصلاة ودعوت ، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، وبكيت بكاء هستيريًّا لم يعتريني قبل ، والأعجب أنه لم يعترني بعد .


يحيى عياش هو طالب كلية الهندسة الفلسطيني الذى طوَّر أسلوب مهاجمة جديدًا مكَّن كتائب عز الدين القسام من قتل اليهود داخل دوائرهم الآمنة . إنها العمليات الانتحارية أو ما اصطلح الإسلاميون على تسميتها بالعمليات الاستشهادية .


استغل يحيى عياش دراسته فى كلية الهندسة - وتفوقه في هذا المجال - في صنع عبوات متفجرة من أدوات محلية تمكِّن المجاهدين من مواجهة اليهود وكان عمره حينها 21 سنة ، وفي عام 1996 تمكَّن اليهود من قتله بعد تعقب دام أعوامًا عن طريق زرع قنبلة تزن 50 جرامًا في هاتفه المحمول ، ردت كتائب عز الدين القسام على حادثة اغتيال المهندس يحيى عياش بعمليات مضادة أودت بحياة 70 إسرائيليًّا وأكثر من 400 مصاب .


تلك المعلومات التى أسطّرها وأنا ابن الـ27 عامًا كنت أحفظها عن ظهر قلب وأنا في الصف الخامس الابتدائي .


دائمًا كان يتم في جلساتنا الدينية تأكيد دور الشباب في الدولة الإسلامية ، وكيف أن المسلمين كانوا يجتمعون في دار الأرقم بن أبي الأرقم وهو ابن الحادية عشرة ، يقوم بذلك معرّضًا نفسه للقتل أو التعذيب وكل هذا دفاع عن هذا الدين الناشئ حديثًا .


وكيف أن الإمام علي بن أبى طالب أسلم وهو في السابعة من عمره ، وأن عمر بن الخطاب شيب مكة وصدح بإسلامه في ربوعها وهو في السادسة والعشرين من عمره ، وأن الشاب مصعب بن عمير ترك رغد الدنيا ونعيمها ليعيش في كنف الإسلام ، وأن أسامة بن زيد قاد جيشًا وهو في الخامسة عشرة من عمره .


كنت وأنا في الثانية عشرة من عمري لا أقرأ سوى بلال بن رباح والحجر الذي وضع على صدره من أجل أن يترك هذا الدين ، إلا أنه لم يكن ينطق سوى بأحد أحد .


كنا نسمع في كل جلساتنا الدينية عن غزوات الرسول : بدر ، أحد ، الخندق ، فتح مكة ، حنين ، مؤتة ، تبوك ، وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله .


كانت حياتي ومدخلاتي تدور بين مكة والمسجد الأقصى وفقط ، وتقمّص النظام وأهل مصر دور المنافقين الذين يحاربون مَن يسعون لإقامة دولة الخلافة وإعادة فلسطين المحتلة .


علي بن أبى طالب هذا الفارس الذى فتح الله به خيبر ، بعد أن عجز المسلمون عن اقتحام حصون خيبر اليهودية . كبر الإمام علي بن أبي طالب وصدح بقولة الله أكبر ، ونتج عن تقدمه بخيله لحصون خيبر غبار كثيف عجز المسلمون خلاله عن تحرى معالمه ، وإذ بهم فجأة يرون الإمام علِي وقد اقتلع أحد أبواب الحصن ليجعله درعًا يحارب بها أعداء الله .


هذا المجاهد الأبىّ البراء بن مالك الذي تغلَّب على حصون الأعداء في إحدى المعارك بأن طلب من الصحابة أن يضعوه على منجنيق ويلقوه داخل الحصن ليفتح لهم الباب وقد كان ، غير أنه كان قد أصيب بأكثر من ثمانين ضربة .

كان الخليفة عمر بن الخطاب يخشى أن يوليه على جيش لتهوّره الشديد ، وكانت إذا احتدمت المعركة وهان الصف نودي على البراء أن أشعل الحماسة من جديد في صفوف المجاهدين ، كان شهيدًا يمشي على الأرض ، فالدنيا لا تساوي لديه الكثير .


القعقاع بن عمرو التميمي ، قال عنه أبو بكر الصديق : لصوت القعقاع في الجيش خير من ألف رجل . حمزة بن عبد المطلب ، الذي صفع أبا جهل عبد الحكم بن هشام في مكة وبين أتباعه وفي عز جبروت كفار قريش ولم يقوَ أحدهم على رد الصفعة .


البوسنة والهرسك ، وسراييفو ، وكوسوفا ، والشيشان ، وأفغانستان ، وباكستان ، وبورما ، وكشمير ، والعراق ، وفلسطين ( غزة ، رام الله ، نابلس ، بيت لحم ، جنين ، القدس ) . عز الدين القسام ، أحمد ياسين ، الملا عمر ، أسامة بن لادن ، أيمن الظواهري ، واي بلانتيشن ، واي ريفر ، خارطة الطريق .


كل هذا كنت أحفظه عن ظهر قلب وأنا في الثالثة عشرة من عمري ، إلا أني - وفي نفس العام - عرفت بالصدفة البحتة أن هناك رجلًا مصريًّا مرشحًا للحصول على جائزة نوبل اسمه أحمد زويل .


أتتني الأخبار أن شيخ الأزهر سيد طنطاوى أفتى بأن مَن يفجِّر نفسه منتحر وليس بشهيد ، وهو فى النار ، احمرّ وجهي وتملكني الغضب وودت لو أفجر نفسي فيه ليعلم إن كان مَن يفجِّر نفسه في اليهود شهيدًا أم منتحرًا . صدر الأمر لكل دوائر الإخوان بأن يصلوا الجمعة في الجامع الأزهر ، ستكون تظاهرة لنصرة إخواننا المجاهدين فى غزة ضد وهن النظام فى حمايتهم .


كنت في الخامسة عشرة من عمري ، ذلك في عام 2000 .

كانت المظاهرة الأولى التي أشترك فيها . لم تكن من أجل الفقر ولا الجهل ولا المرض المتفشي في مصر ، لأن هذا الأمر لم يكن يعني مسؤولي الأسر داخل الجماعة ولا الجماعة نفسها .

كانت من أجل فتوى ضد مجاهدي دولة أخرى . فتوى صادرة من أكبر رمز ديني مصري ، بل ورمز إسلامي في العالم أجمع . إنه شيخ الأزهر .


كنت حتى اللحظة أعتقد أن كل مَن صلى وزكى وصام وقام الليل هو من الناجين من النار ، وأنه لا غبار عليهم ، كيف به وهو رأس الأمر في العالم الإسلامي ؟ كانت صدمة لما تربيت عليه .


أنا أعلم أن مَن هم خارج الإخوان إما عملاء لأمن الدولة وإما علمانيون يسعون لفصل الأرض عن السماء ، ونشر الإباحية والشذوذ ، لكني لم أكن أعلم أن هناك صنفًا آخر ، مع الوضع في الاعتبار أنه من زمرة المسلمين .


وبجانب أنها كانت صدمة فقد كان صدامًا أيضًا ، صدامًا مع أهلي فى المنزل ، لم أترجم هذا الخوف الشديد الذي ألمَّ بهم حينها . تهيَّأت للخروج للتظاهرة وأخبرت أمي وأخي الأكبر بكل عفوية - وكأني ذاهب لأمر حياتي يفعله الجميع - بأني ذاهب لتظاهرة ضد النظام الحاكم تضامنًا مع مجاهدي فلسطين ، بيْد أني وجدت أمي تصرخ فى وجهي ، وأخي الأكبر يقبض على يدي مانعًا إياي من إكمال سيري .


تعجبت الأمر ، فأنا ذاهب مع الزمرة الطيبة أهل الجنة لمواجهة أهل الكفر والإلحاد ، وأهلي حتى تلك اللحظة كنت أظنهم أهل جنة ، ما لهم يمنعونني مشاركة إخوتي في أمر طيب ؟


أصررت على الخروج ، واندهشت أمي من إصراري ، فتحول صراخها إلى بكاء واستعطاف أن لا أخرج ، وتحولت يد أخي القابضة على معصمى إلى يد حانية تخبرني بأنهم يخافون علىّ الأذى .


زادت دهشتي ، إنها مظاهرة ، لم أخبرهم أنني ذاهب إلى أرض الجهاد وقد أقتل ، وحتى إن قتلت فيجب أن يعينوني على نفسي . هكذا تعلَّمت فى مدارس الإخوان ، أن أرواحنا أهون شيء نقدمه إلى الإسلام ، يجب أن تكون النية دائمًا من أجل الإسلام ولله .


لما اشتد بكاء أمي واستعطاف أخي الأكبر صرخت صرخة مدوية في وجهيهما ، أعلنت فيها رفضي تلك الوصاية وأنني سأخرج حتى لو في الأمر قتلي ، وساد الصمت المكان ، فطفل الأمس أصبح رجلًا يصرخ ، ويتحدث عن الموت كأنه أمر هيّن .


لما أدرك الجميع أنني ذاهب لا محالة اشترطت أمي أن يصحبني أخي الأكبر في تلك التظاهرة ، وتعجبت من هذا الطلب ، هي تخشى أن يصيبني ضرر ولا تخشى على أخى الأكبر أن يصيبه نفس الضرر !


خمّنت أن وجود أخي ليكون مانعًا لي من أن أتمادى في التظاهرة ، فعندما يحتمي الوطيس لا عليه سوى أن يحملني عنوة بعيدًا عن الأمر .


حملتنا سيارات من قريتنا وتوجهت بنا إلى الجامع الأزهر وكانت تلك هي المرة الأولى التي أصلي فيها في الجامع الأزهر ذي التاريخ العريق من النضال ضد المستعمر ، وها نحن نجدد هذا التاريخ ولكن ضد الدولة الكافرة .


فوجئت كما فوجئ الجميع أن خطيب الجمعة هو نفسه شيخ الأزهر سيد طنطاوي ، كيف جرؤ على أن يحضر إلى هنا ؟


صعد المنبر في خطوات مرتعشة وأبدى ابتسامة ليس لها معالم وأخذ يخطب فينا ، إلا أني لم أذكر من خطبته العصماء سوى كلمات قليلة تلك التي اختتم بها خطبته ، قال الشيخ إن مَن يفجِّر نفسه في فلسطين شهيد شهيد شهيد ، وأخذ يرددها بحماسة شديدة وانتفض على أثرها المسجد مرددًا الله أكبر .


صلينا ركعتي الجمعة وقبل أن ينتهي الإمام من التسليم علت الهتافات واهتزت جدران الجامع الأزهر من قوة الهتاف .


نشوة غريبة اعترتني حينها ، كان القلب ينتفض مع كل هتاف ، قمت لأمسك بيد أخي لنشترك معا في التظاهرة ، غير أني لم أجده بجواري .

كان أخي قد انتفض كالصقر منضمًا إلى الحشود هاتفًا بكل قوة : خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود .

تملكني الخوف على أخي وقبضت على يده حتى لا نفترق وسط تلك الأمواج الهادرة من المتظاهرين ، وبدلًا من أن يحميني أخي الأكبر من اندفاعي حميته أنا ، غير أن هناك أمرًا آخر أثار دهشتي ، ذلك الرجل الذي كان يجلس على يساري ويحمل صورة جمال عبد الناصر .


لم أكن أجد في أدبيات الإخوان ما يدل على أن عبد الناصر مسلم ، هو كافر زنديق حارب الدين وحارب مَن يطالبون بتطبيق شرع الله ، إذن فلِمَ تُرفع صورته في المسجد ؟


الأدهى أنه وفور انتهاء الصلاة وجدت المتظاهرين وقد انقسموا إلى فرقتين بمظاهرتين وهتافات مختلفة ، وكان الفريق الآخر يحمل صورًا لعبد الناصر ، سألت نفسي حينها وهل يوجد مجاهدون في هذا الكون غيرنا ؟


أضف إلى ذلك هذا السؤال الذي شغلني حينًا ألا وهو ما علاقة هؤلاء المجاهدين بهذا الزنديق ؟


بعد تلك الحادثة تبدَّلت نظرتي للأمور ، وتبدَّلت نظرة أهلي إلى هذا الذي كان بالأمس طفلًا .

علم أبي في المساء بعد أن عاد من عمله بما كان مني ، بمجرد أن أخبرته أمي ذهب إلى مكتبتى الصغيرة وأخذ يقلب فيها وأخرج ما يقارب ثلاثين كتابًا كلها تتحدث عن الإخوان والجهاد وفلسطين وطلب مني إحراقها أمامه ، وأن لا أعاود الاتصال بجماعة الإخوان مجددًا .


تعجَّبت من موقف أبي الذي تبدَّل هكذا فجأة ، كان بالأمس سعيدًا بأصغر أبنائه المتدين ، ولم يكن يعقب على وجودي داخل صفوف جماعة الإخوان ، غير أن الأمر اختلف ، ذلك أنه أخبرني حينها أن صديقًا له في العمل كان عضوًا في الجماعات الإسلامية قد أخذه زوار الفجر من منزله وها قد مرَّت بضعة أشهر ولا يعرف عنه شيئًا .


كنت أسمع في حلقات الإخوان وأقرأ في كتبهم عن زوار الفجر هؤلاء ، لكن كانت تلك هي المرة الأولى التي ألمسها في أحدهم ، وكان هذا الشخص صديق أبي من المقربين إلى قلبي ، إلا أني لم أهتم بما طلبه أبي ، وأخذت أحدثه عن الجهاد والشهادة والقضية ، والموت في سبيل الإسلام . وتعجب أبي من كوني أرد عليه الكلمة بكلمة ، بيْد أن أبي لم يكن لين الجانب مثل الآخرين ، كان عنيفًا جدًّا ، وكان لا يتورع بضرب من يغضبه بأي شىء تطاله يداه ، وبمجرد أن خالفته علت أمارات الخوف كل مَن بالمنزل ، فأبي عندما يهم بضرب أحدنا لا يفرق ، فهو يجعل الليلة سوادًا على رؤوس الجميع ، غير أنه وعلى غير المتوقع لم يحرك ساكنًا ، كنت المقرب إلى قلبه ، كنت أحَبّ أبنائه إليه ، لهذا تركني وذهب ، لكن ليته ما تركني ، ليته صفعنى بشدة لأرجع عن هذا الطريق .





الحلقة الرابعة


كيف حوّل الإخوان البرادعى من قائد للثورة إلى عميل لأمريكا ؟

تم حشدنا لحضور عقد قران ابن عصام العريان على ابنة الشيخ محمد الراوي ، كان ذلك تقريبا في عام 2002 ، لم أكن أعلم حينها ما علاقة القضية التي تربينا على الجهاد من أجلها بزواج ابن عصام العريان .


كنت أجلس في أثناء عقد القران كالحمار ، فأنا لا أعلم من سيتزوج من ، لست قريبًا للعروس ولا من أصدقاء العريس ، ولست مدعوًّا من أحد الطرفين ، كنت أعلم أنه من الجائز أن يحشدنا الإخوان لتظاهرة في الجامع الأزهر ، لحضور مؤتمر بنقابة الأطباء عن القتل الدائر في فلسطين والذي لا تتورع عنه الآلة العسكرية الإسرائيلية ، لكن أن نُحشد لحضور ليلة زفاف !


كان الأمر بالنسبة إليّ غير متقبل عقليًّا . زاد الطين بلة أنه وبعد انتهاء عقد القران وفي أثناء خروجنا من المسجد لاحظت صفًّا طويلًا يقف فيه شباب الإخوان من قريتي كأنهم يستعدون لمصافحة أحدهم ، ذهبت لأستفسر فقال لي صديقي إنه المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين الحاج مصطفى مشهور .


وقفت في الصف حتى أرى هذا الذى نحارب تحت رايته ، وكلما اقترب لمحت أمرًا غريبًا ذلك أن الشباب كانوا يقبِّلون يديه بِوَرَع وخشوع يعلو الوجوه - جميعهم بلا استثناء - حتى جاء الدور عليَّ في المصافحة فوجدتني لا إراديا أقبِّل يديه أنا الآخر ، وضربني شعور حينها كمن ألقيته من أعلى ناطحة سحاب .


أنا لا أعرف هذا الشخص ، ولم أقابله قبلًا ، كل علاقتي به أنني فرد لا يزال في طور النشأة والتكوين في جماعته . ما ساءني أكثر في تلك المسألة أنني قبَّلت يديه لا إراديًّا دون تفكير ودون تردد ، كنت أجد أنني أوشكت أن أصير آلة يحركها أحدهم كلما أراد لها الحراك ، ويوقفها كلما أراد لها أن تقف .
في أحداث محمد محمود في شهر نوفمبر من عام 2011 كمثال : رفض الإخوان أن يشاركوا في تظاهرات التحرير التي خرجت نصرة لأهالي الشهداء ممن سحلتهم قوات الأمن فى التحرير ، ولم يحركوا ساكنًا أمام تلك الجثث التي تساقطت من العنف الوحشي الذى مورس قِبل أصحابها ، بل وخرج علينا الإخوان وشبابهم قائلين إن هذا الأمر يراد به تعطيل انتخابات مجلس الشعب ، وإعطاء الضوء الأخضر للمجلس العسكرى لأن ينقلب على الشرعية ويفرض الأحكام العرفية ليستقر له حكم البلاد ، ورأينا عشرات الآلاف من شباب الإخوان يقرون موقف جماعتهم وينعتون من بالتحرير بالبلطجة وإثارة الشغب .


أنا شخصيا نالني منهم الأذى ، ذلك أنني عندما عدت من التحرير إلى قريتي قابلني بعض شباب الإخوان بالسخط ، وقالوا إني جاهل يحركني أعداء الوطن الذين يريدون جر الإخوان لمذبحة لن يسلم منها أحد ، وفجأة وبقدرة قادر كان الإخوان من أوائل الموجودين في التحرير بعد صدور الحكم على مساعدى العادلي بالبراءة من تهمة قتل الشهداء والادعاء بأنه ما من أدلة تثبت أن الداخلية هي من قتلت الشهداء .

وثار الإخوان وثار شبابهم واعتصموا مع الثوار ما يقرب من الخمسة أيام في الميدان علما بأن انتخابات الرئاسة على الأبواب ، وخرج أيضا شباب الإخوان ليبرروا الموقف الحكيم لجماعتهم ، وكيف أنهم أدركوا عين الحقيقة .


قلت لنفسي إنه وفي المرة الأولى : خرجنا من أجل الشهداء ولم يخرج الإخوان ، وفى المرة الثانية : خرجنا أيضا من أجل الشهداء ، لكن خرج معنا الإخوان . في المرة الأولى : كانت هناك انتخابات ، وفي المرة الثانية : كانت هناك انتخابات أيضا .

خشي الإخوان في المرة الأولى أن يعودوا إلى الميدان حتى لا يتخذها المجلس العسكري ذريعة للانقلاب على الثورة ، لكن عادوا إلى الميدان في المرة الثانية ، ولم يخشوا من إعطاء تلك الذريعة للمجلس العسكري ، أي أنهم بذلك ضربوا بأسباب عدم نزولهم في أحداث محمد محمود عرض الحائط ، غير أنه في المرة الأولى كان موقف الإخوان قويا في انتخابات مجلس الشعب فخشوا من ضياع المنصب ، في المرة الثانية كان موقف الإخوان في أسوأ أحواله فتذكروا دم الشهداء ، وأدركوا أنه خطاب أكبر تأثير من خطاب الإسلام هو الحل الذي فشل بجدارة في استقطاب البسطاء ، ولم يحقق سوى نتيجة 24% في انتخابات الرئاسة . قيسوا على ذلك تعامل شباب الإخوان مع قرار الجماعة عدم الترشح للرئاسة ، وتعامل الشباب مع قرار الجماعة بعد بضعة أشهر فقط بالعدول عن قرارها السابق والترشح للرئاسة .
أذكر أن من دفعني إلى التوقيع للبرادعي في أثناء حملة جمع التوقيعات في عام 2010 كان شابًّا إخوانيًّا ، اليوم وفي 2012 تغير الخطاب وأضحى البرادعى في نظر الإخوان لا يصلح عميلًا لأمريكا ، السبب في ضياع العراق ، جاء من أجل السلطة وليس من أجل مصر .

وخرج علينا أحد شيوخ السلفية وقال إن البرادعي جاء لتطبيق الليبرالية ، وترجم الليبرالية بأنها دعوة لأن تسير أمهاتنا في الشوارع بدون حجاب وأن نبيح الشذوذ ، فسألت نفسي أولم يكن التيار الإسلامي على علم بأنهم يساندون زنديقًا ، ولنفترض جدلا أنهم أخطؤوا في الحكم على شخص البرادعي حينها ، أليس ذلك أدعى أن يفكر شباب الإخوان في أنه من الممكن أن تخطئ شورى الإخوان ومكتب إرشادهم وكبيرهم ، أو بالأحرى شاطرهم .
لست مهتمًا بالتغيرات التي حلت بآراء الإخوان كجماعة لأنها نسبية وتتغير تبعا للمصالح السياسية مع هذا أو ذاك ، ما أثار اهتمامي في المقام الأول والأخير هو تعامل شباب الجماعة ، ذلك الشاب الذي كان يدافع بقوة عن محمد البرادعي فى 2009 هو ذات الشاب الذي يطعن في نزاهة الرجل في 2012 ، الشاب الذي كان يمدح حكمة الجماعة التي أنقذت مصر لأنها لن تترشح للرئاسة هو نفس الشاب الذي يمدح حكمة الجماعة في قرارها بالترشح للرئاسة ، ذلك القرار الذي سينقذ مصر أيضا ، وسألت نفسي أين إرادة الشباب وقناعاتهم في ما حدث ويحدث ؟!
أذكر أن أحدهم خاطبني بعد إعلان أنه هناك ثمة إعادة بين شفيق ومرسي في انتخابات الرئاسة ، وقال لي : ألم أقل لك إن قرار الإخوان كان قرارًا حكيما بالترشح للرئاسة ، وعلل كلماته بأن الإخوان لو لم يعلنوا الترشح للرئاسة لنجح شفيق من الجولة الأولى ، فأعلنت عن دهشتي من هذا الشاب الجامعي الذى عطَّل عقله من أجل الجماعة ، وقلت له سائلا : الإخوان حصدوا 6 ملايين صوت في انتخابات الرئاسة ، قال : نعم ، قلت : لو لم يترشح الإخوان ما الذي كان سيحل بتلك الأصوات ؟ فعجز عن الرد ، فقلت : كانت تلك الأصوات ستنقسم ما بين حمدين صباحي وعبد المنعم أبي الفتوح ، أي أن الإعادة كانت ستتم بين حمدين وأبو الفتوح هذا إن لم ينجح أحدهما من البداية ، فصمت هنيئة مدعيًا أنه يفكر ، ثم قال : أنت لا تفهم جيدًا في السياسة ، الإخوان أنقذوا مصر بقرارهم الحكيم وخرج وهو مقتنع أنني غبي لا أفهم في لعبة السياسة التي يديرها مكتب الإرشاد بقوة ، غير أني صدَّقت على اتهامه إياي بالغباء ذلك أني أضعت وقتي في الحديث مع آلة لا عقل لها .
كانت تساؤلات تكاد تفتك بعقلي ، أين أنا ؟ أين إرادتي ؟ أين قناعاتي ؟ قد يعشق أحدكم لونًا معينًا من ألوان الحياة ، غير أنه من الحمق أن يفرض على من هم تحت سلطته أن يعشقوا نفس اللون ، والفرض هذا هو ما كان يحدث داخل دائرة الجماعة ، ولكن هناك أمورًا متبعة لتفادي تمردهم .


لتُتجنب ثورتهم عليك أن تلغي قدرتهم على تذوق هذا اللون أو ذاك ، ذلك بقتل معرفتهم وإدراكهم بأن هناك ألوانًا عدة من المتعة ، وأنه لا يوجد سوى لون واحد ولنأخذ كمثال شعار «الإسلام هو الحل» ، ذلك الشعار لا يعطي لشباب الإخوان طريقا آخر للتفكير ، هو لون واحد وفقط ، والتفكير في آخر طعن في عقيدة المسلم ، هذا أولًا ، وثانيا أن تؤسس لديهم عقيدة أنك لا تخطئ أبدًا ، وأن قراراتك وحي وإلهام من السماء ، وهذا ما يمثله مكتب الإرشاد ، فيصير الحشد للاستفتاء هو الحل ، ومعارضة ثورة محمد محمود هي الحل ، والاستيلاء على أغلبية الجمعية التأسيسية لوضع أول دستور بعد ثورة يناير هو الحل ، ليس شعار الإسلام وفقط هو الحل ، بل كل ما يخرج من مكتب الإرشاد هو الحل ، وفقط هو الحل . وبذلك تضمن أنهم سيعشقون ما تعشق ، بل سيموتون دونه ومن أجل نصرته .


غير أنني صحوت من غفلتي قبل أن يقتلوا هذا العقل ، وقبل أن أعتنق هذا الدين الجديد .
متى كانت البداية ؟ هل كانت في ذلك اليوم ؟ اليوم كان الموعد المحدد لمسابقة تقيمها مدرستي الابتدائية بين فصول المتفوقين . جميع المتسابقين تم اختيارهم بالقرعة بين طلاب عدة لتقارب مستواهم ، أما أنا فكنت أحجز مقعدي مسبقًا في أي مسابقة دون قرعة مع أحدهم .


كان القائم على مجموعتنا هو أستاذ التربية الدينية ، كان خطيبًا وإمامًا لأحد المساجد أيضا ، علمت في وقت لاحق أنه كان منتميًا إلى جماعة الإخوان المسلمين . لم يكن لين الجانب ، وكنا نهابه حتى ونحن في فرشنا وبين أهلينا ، وكأني بالأمس القريب أراني وأنا نائم على قلمي وكتابي أنهي واجباتي ، ليس حبا فيها ، إنما خوفا من عقابه .
في يوم المسابقة نظر إليّ مدرس التربية الدينية نظرة فخر وكأني من سيأتي بالنصر العاجل . كنت لا أُبارى في حفظ القرآن والأحاديث النبوية ، وكان واثقا من ضَعف المنافسين في هذا الجانب ، فهو مدرس الدين وأدرى بحال طلابه ، غير أن تلك الآمال التي وضعت عليّ أثقلت كاهلي .

قد يضحك أحدكم من هذا الموقف الطفولي ، غير أنكم لا تدركون أن لكل فترة عمرية أثقالًا وأحمالًا من الصعب أن تتخطاها وإلا حدثت الكارثة ، وقد كان .
زادت الرعشات مع بداية المسابقة ، وزاد تأملي في الجدران من حولي ، وكأني أناجيها أن ألهميني الثبات . وزادت خيالاتي ، فالنصر قادم ، وأنا من سآتي به . أنظر إلى مخيلتي وهى تُنصبّني على عرش المتفوقين في المدرسة ، والجميع ينظر بغبطة لهذا الذي يتمنى كل منهم أن يحل مكانه ، وزادت تخيلاتي ، ومعها تلاشت رعشاتي أو تناسيتها ، ولم أعد أتأمل في الجدران ذلك أنني سرحت في عالم آخر من النشوة ، اسمه عالم الخيال ، الذي يذهب بك كل مذهب ، ويأتي لك بكل عصي ، غير أني فجأة شعرت بلكزة في كتفي جعلتني أقفز من مكاني . رأيت أستاذ الدين وهو يعيد السؤال الذى طُرح علي ، كنت نسيت الحضور وتركتهم لعالم آخر صنعته مخيلتي .


كانت الإجابة بضع آيات من القرآن كنت أحفظها جيدًا ، بل كنت أحفظ السورة كلها . لا أعلم كيف نطقت بآيات أخرى غير المرادة في بادئ الأمر ، غير أنني ما لبثت أن عدت وقرأت الآيات المقصودة ، لكن كان قد فات الأوان . كان هناك وقت للإجابة ، وكان يجب أن لا أخطئ في تحديد المراد من أول لحظة ، وتمسك المنافس بموقفه ، وكان لأستاذ الدين موقف لن ولم أنسه .


نظرت إليه بعين المترقب فوجدته وقد رفع رأسه إلى السماء وقد علت وجهه علامات السخط ، وفي ثوان معدودة لم يلحظ وقعها غيري أنزل رأسه وقد أجهز على ببصقة لا صوت ولا ريق لها ، بصقة لا يراها ولا يشعر بها غيري ، وبكيت ، ومن هنا بدأت رحلتي مع البكاء الذي لم أجد له بديلًا يخرجني من هذا العالم الضيق بأفكاره ومعتقداته ، ومن هنا أيضا تلبستني الرعشة التي جعلتني لا أقوى على المواجهة في أي سباق ، ولا على التقدم للقيادة في أي تجمع ، وصرت أعشق أن أكون مجرد تابع ، وأكره أن أكون يوما متبوعًا ، ذلك أني أخشى من بصقة مماثلة ممن قد أضيعهم ، ومن هنا أيضا زاد معي عشقي للخيال ، فصرت أهرب إليه كثيرا كلما ضاقت بي الأحوال ، وضاقت بي عبارات الدنيا وأفكار قاطنيها .
كانت سقطة أفقدتني توازني ، غير أن ما آلمني أننى وحدي من تحملت آلام الهزيمة . مر الأمر على زملائى جميعهم وكأن شيئا لم يكن ، حتى أستاذي الذي رماني ببصقته نسي هو الآخر ، غير أني لم أنس .




الحلقة الخامسة

الفن الحرام في حياة الجماعة



كنت أطرب بالأصوات الجميلة ، كانت تأخذني إلى عوالم أخرى ، أشعر فيها بإنسانيتي . يعود الفضل إلى أمي في هذا الأمر ، على الرغم من كون أمي وكعديد من أمهات القرى لا تعرف القراءة والكتابة فإنها كانت فنانة ، تملك ذائقة يفتقد إليها كثيرون من مثقفي اليوم ، ومن أمي تعلمت أن الفن والجمال فطرة غرزت في الإنسان ، ومن الصعب قتلهما ، غير أنه من الممكن أن تصيبهما أتربة تعوق الرؤية لدى صاحب هذا القلب المعطوب ، ورغم كوني كنت حافظًا للقرآن ودائما ما يسبق اسمي لقب الشيخ أو مولانا ، فإنني عندما كنت أقف أمام صوت جميل سواء لرجل أو امرأة كان يتلبسني شعور بالوقار ، يرتقي بي نوعا ما .


بالطبع كنت أغالب هذا الشعور على اعتبار أنه محرم داخل دائرة الإخوان ، غير أن الشعور بروعة الفن كان دائما ما يغالب دينهم ، كنت أستيقظ كل يوم على صوت الراديو وهو يرسل تلك النغمات إلى أم كلثوم وعبد الحليم وعبد الوهاب وغيرهم ، كانت طقوسًا خاصة بأمي ، بمجرد أن تستيقظ في الصباح تتوجه مباشرة إلى الراديو وتدير المؤشر وتتركه يرسل دفقاته التي تأخذ الألباب ، حتى القرآن المنبعث من الراديو كان يأخذ الألباب على عكس القرآن الذي نسمعه في أغلب مساجدنا ، والذي يكون أقرب إلى نعيق الغربان ، فكل من وجد في نفسه الرغبة تجرأ على الإمامة وابتلانا بصوته القمىء .


ولعشقي للنغم فقد نغمت أنا أيضا ، خصوصا عندما كنت أقرأ القرآن ، كنت أقرأ القرآن بصوت حسن ، استخدم شيخي حسن قراءتي للقرآن ووظفه في جعلي عضوًا في فريق الإنشاد داخل الجماعة بالقرية .


كانت لحظات جميلة عندما تقف أمام الجميع وتبدأ في ترتيل أناشيد بنغم يعلوه الإحساس ، وأنت ترى الجميع يتفاعل مع هذا الطفل صاحب الصوت الرقيق .


كان الإنشاد هو البديل عن الغناء الداعر المحرم في الإسلام كما علمونا ، أناشيد هي أقرب للمارشات العسكرية ، جميعها تتحدث عن الجهاد والقتال والدعوة في سبيل الله . أول من ساعدني علي اكتشاف موهبتي في الإنشاد كان أستاذ اللغة العربية بمدرستي الابتدائية . هو نفسه الأستاذ الذي بصق في وجهي أو هكذا أوحى لي عندما أخطأت في مسابقة المتفوقين عن غير قصد ، استخدمني تلك المرة في الإنشاد في أثناء حفل أقامته المدرسة احتفالا بالمتفوقين .


عمل على استغلال هذا الأمر بالطريقة المثلى شيخي بجماعة الإخوان المسلمين ، ساعدني هذا الأمر على أن يعلو نجمي وأن أظهر بصورة جيدة داخل تلك الشعبة من جماعة الإخوان ، فأنا منشد معظم التجمعات واللقاءات .


كنت في الصف الأول الإعدادي عندما كنت أقف في المساجد مغردًا أناشيد الصحوة الإسلامية ، أو في لقاءات الإخوان المغلقة . أسعدني هذا الأمر جدا . كنت أدندن تلك الأناشيد في معظم أوقاتي حتى وإن لم يكن هناك من يسمعني . حتى وأنا أسطر تلك الكلمات الآن حضرني نشيد لم أنشده منذ عشر سنوات تقريبا وأخذت أردده ، الأغرب أنني كنت أردده وكأني ما زلت عضوًا في جماعة الإخوان ، هل ما زلت أحملهم داخلي ؟ أم أن النغم لا دين ولا إله له ، فهو ملك للجميع ؟


كنت إلى جانب الإنشاد عضوًا في فريق الأشبال للتمثيل داخل الشعبة ، شاركت في مسرحيات كانت جميعها تدور في فلك القصص القرآني والسيرة النبوية .


أذكر من الشخصيات التي قمت بتأديتها دور الفتى المؤمن في قصة أصحاب الأخدود ، وأيضا قمت بتأدية دور آخر عن هجرة الرسول . كنت أميل إلى تلك الأمور الفنية أكثر من اللعب والأيام الرياضية التي كانت تقيمها الجماعة . تلك الأمور كانت تقام بصورة عشوائية وغير منظمة ، لم تأخذ الشكل الحرفي المطلوب . غير أنها كانت تضفي على حيواتنا ونحن أطفال لمسات من البهجة .


في عام 1998 أقامت مدرستي حفلا غنائيا . كنت مشاركا في هذا الحفل . أستاذ التربية الموسيقية كان في حاجة إلى بعض الطلبة يقيم بهم الحفل ليظهر بالصورة المناسبة أمام بعض مسؤولي الوزارة ممن سيحضرون الحفل . كنت واثقا من أدواتي فأنا منشد قريتي، جميع إخوان قريتي يقرون بصوتي الجميل الذي يغلفه الطرب الأصيل ، غير أني لم أدرك أمرين ، أولهما : أن مدرستي الإعدادية كان مقرها في قرية مجاورة وأغلب طلابها لا يعرفونني ، ثانيا: أن الحضور معظمهم أساتذة تربية موسيقية ومتخصصون في هذا المجال ، لكني أدركت الأمرين فور أن بدأت أنشد مباشرة ، ذلك أنه قد تعالت ضحكات الجميع ، حتى أن أحدهم قد سقط على الأرض من شدة الضحك . تعجبت من الأمر ، ربما كان عبث الطفولة الذي يغلف تلك المرحلة ، نظرت إلى أستاذي غير أنه أشار لي أن أكمل ، أخذت أردد النشيد في نفس الوقت الذي ظلت فيه الضحكات ، شعرت أن هناك أمرًا ما ، غير أني لم أكن أتوقع أن صوتي بهذا السوء ، الجميع في جماعتنا أخبرني أنني أملك صوتًا جميلًا ، هل كذبوا علي ؟! إلا أنهم شيوخ ، والشيوخ لا يكذبون .


عدت لأكمل فقرتي ، صاحب ترتيلي للنشيد بعض قطرات الدمع التي سقطت من عيني لتبلل صوتي الذى أضحى حزينا ، صرت أغني والجميع يضحك ، وفي الخلف أنظر إلى أستاذي ليخبرني أن أستمر ، وفي نهاية إنشادي نظرت إلى السماء وكانت تلك هي المرة الأولى التي تمنيت فيها أن أموت ، ولم تكن الأخيرة .


لم أصدق أن صوتي بهذا السوء ، وإلا ففيم كانت تلك السنوات الثلاث التي غردت فيها في معظم احتفاليات الإخوان في قريتي ؟ هل كذبوا علي ؟ لا ، لا ، ربما كنت مرهقًا فلم أحسن الإنشاد ، وربما كان الطلبة يضحكون من شىء آخر .


لم أعد إلى الإنشاد مرة أخرى بعد تلك الحادثة ، لا أعلم لماذا ؟ ربما لم أقوَ على أن أبلل صوتي بدمعاتي مرة أخرى ! حتى قراءة القرآن بصوت منغم أوقفتها ، صرت أقرأ قراءة عادية كمن يقرأ من جريدة .


مرت ثلاثة أعوام على تلك الحادثة حتى كان عام 2001 وكنت حينها في الصف الثالث الثانوي ، وفي أثناء حضوري لصف التربية الموسيقية علمت من أستاذ المادة أن الوزارة تقيم حفلًا غنائيا بالاشتراك بين عدة مدارس وأننا سنشترك . دبت الطمأنينة بقلبي قليلا عندما علمت أننا سنشترك ككورال خلف المطرب ، لم أكن أود أن أمر بتجربة غنائية فاشلة أخرى .


شدني الحنين مرة أخرى إلى هذا العالم ، فقررت أن أتناسى ما كان وأن أحيا ما هو كائن . غير أن القدر أبى إلا أن يضعني تحت قدميه مرة أخرى ، ذلك أننا في أحد أيام المران استعدادًا للحفل حضرت مسؤولة من وزارة التربية والتعليم لمتابعة المران ، وفي أثناء ترديدنا الأغنية حدث خروج عن النص ، فأوقفت المسؤولة المران وطلبت من كل منا أن يغني مقطوعته منفردًا . وكانت الفاجعة ، هل أضع نفسي في تلك السوءة مرة أخرى ، ليتني لم أشترك في هذا الأمر من بدايته ، لكني أحب الموسيقى حقًا ، ولم أكن لأفوت أمرًا مثل هذا .


طلبت مني مسؤولة الوزارة عن النشاط الفني أن أغني قطعة من الأغنية ، وقد كان ، لكنها أوقفتني مع أول كلمة ، وردتني بكلمات رقيقة علمت من خلالها أن صوتي ليس بالجيد ، وأن هناك أمورًا أخرى تقنن الصوت ، فليس بالتنغيم وفقط يكون الصوت طربًا .


كان عزائى حينها أنني كورال ، أسند المطرب الأساسي في غنائه ، فليس مطلوبًا مني أن أمتلك صوتا جميلا . رأيتها وهي تقوِّم طريقتي في الغناء ، تحدثني بشكل أكثر تخصصًا ودراية ، فهمت من حديثها أن العيب ليس في الصوت ، إنما العيب في تقنين الصوت ، في تمرينه على هذا الأمر ، وتلك التمارين والتدريبات لم يكن يهتم بها الإخوان .


هناك أمور من المحظورات ، وإن اضطرت إليها الجماعة فقد تأتيها بغير اهتمام فقط من أجل سد بعض الثغرات. قد تدعي الجماعة أنها لا ترفض الفن ، والموسيقى ، والتصوير ، وأنها تقف عونًا له لا حائلا ضده ، لكن هل فكر أحدكم يوما أن يستوقف إخوانيًّا ويسأله ما نوع هذا الفن الذي تبيحه الجماعة ؟!


بالطبع لم يكن شيخي على علم بتلك الأمور ، كنت قد أنشأت دائرتي السرية التي تسير بالتوازي مع دائرة الإخوان ، تلك الدائرة السرية هي عالمي الخاص الذي لا أجده داخل تلك الجماعة .


فأنا أقرأ كتبًا غير التي يقرأها شباب الجماعة ، أسمع موسيقى غير التي يسمعونها ، أشاهد أفلامًا سينمائية غير عمر المختار والناصر صلاح الدين الأيوبي ، وفي أحيان أخرى كنت أغازل ابنة الجيران لأقتنص منها بضع ضحكات تنهض بهذا القلب الذي كاد يموت من كثرة ما أبغضوا إلينا النساء ، وكيف أنهم يذكروننا دائما بخطورة الاقتراب من هذا العالم الذي لا طائل من ورائه سوى الخسران .


كان أمرًا مثيرًا للدهشة والتناقض في الوقت ذاته ، فأنا في الصباح أشترك مع فتيات في بروفات كلها غناء وعزف وموسيقى ، وفي المساء أجلس في المسجد أقرأ القرآن وأقيم الصلوات . كان عالما لكم أحببته ، في دينهم يسمونه نفاقًا ، وفي دينى أسميه « هكذا يحيا الإنسان » ، فكل ما يدخل السرور على هذا القلب هو حلال ، طالما لم يضر الآخرين . وتذكرت مقولة أحد شيوخ الأزهر عندما قال « آتوني بما ينفع الناس وأنا آتيكم بالدليل الذى يؤيده من القرآن والسنة » .


وفي الليلة المنشودة التي سيقام فيها الحفل - والذي أقيم على مسرح المدرسة السعيدية بالجيزة وحضره حينها محافظ الجيزة - كنت أشعر كأني إنسان غير الإنسان ، وكأني تبدلت إلى شخص آخر . هذا العالم الذي أحيا داخله ، والذي هو من المحظور الاقتراب من أسواره ، وأنا داخل دائرة الجماعة ، ها أنا أعيش الآن بين أفراده كواحد منهم ، وليس مجرد متفرج من خارج الأسوار ، كلما انتظمنا للاستعداد للحفل كلما انتظمت كل أركاني وتهيأت للحدث .


أين الرعشات ؟! أين الخيالات ؟! أين الخوف ؟! هل هناك علاقة بين أن أمثِّل الدور الحياتي الذى أعشقه وبين ذهاب رعشات أطرافي وخوفي ؟ اصطففنا على المسرح وبدأ الغناء ، ومع الغناء والعزف بدأت أشعر بأن هناك إنسانًا آخر يحل في هذا الجسد مع كل مقطع موسيقى وكل نوتة موسيقية تعزف ، هل حل فى جسدي جسد آخر غيره ؟ هل حلت بي روح أخرى ؟ أم أني تطهرت من عبودية الماضي فوجدت نفسي ؟ لكن ما فات أيقظ في نفسى التساؤلات من جديد . ذلك أن نفسي راودتني عن سؤال ما ، كيف رآني شباب الإخوان منشدًا أملك الصوت الحسن ؟!


منذ بضعة أسابيع وقبل انتخابات الرئاسة 2012 انتشر على « اليوتيوب » فيديو لمنشد إخواني يغنى من أجل الدكتور محمد مرسي مرشح الإخوان المسلمين .

كان صوته في منتهى السوء ، وأخذ الجميع يتندر على هذا الصوت ، غير أن أحدكم لم ينتبه إلى أن هذا المنشد كان يصدق نفسه بالفعل ، لو نظرنا إلى تعابير وجهه لوجدناه يستشعر كل كلمة يقولها حتى إنه كاد يبكي من فرط اللذة في مواطن عدة في النشيد . كان النشطاء يتداولون الفيديو على شبكة الإنترنت للسخرية ، في الوقت الذي كنت أجلس فيه مع نفسي لأعيد تقييم الماضي ، أعادني الفيديو إلى منشد آخر عاش سنوات يظن أنه عبد الحليم حافظ ، حتى اكتشف بمجرد أن ساقته الظروف في طريق أناس أكثر تخصصًا أنه إنسان عادي ، إلا أنه عاشق للموسيقى ويملك ذائقة فنية وفقط ، غير أنه لا يصلح أن يكون مطربًا ، هو بالكاد يصلح أن يكون سنيدًا ، كورال يساعد المطرب الفنان والموهوب بحق .


الإخوان لم يكذبوا عليّ عندما أخبروني أني أملك صوتًا جميلًا ، ذلك أن الفن في مرتبة متأخرة جدًا ، وقد يكون لا مرتبة له من الأصل ولا منزلة .


لهذا تساوى لديهم المطرب والسنيد ، وتبدلت الأماكن بكل سهولة لنجد من لا يستحق في المكان غير المناسب . هدم تلك الفرضية التي زرعها فى نفسي الإخوان ساعد في هدم فرضيات أخرى ، وهي أن رؤيتهم تلاشت أمام أول إنسان متخصص ، يفهم دوره ويدرك ما يناط به ، أو بدقة أكثر إنسان يعي أين يضع خطواته .


عندما تحاور إخوانيًّا وتجده يصدق نفسه بالكلية لا تتعجب ، فإن كنت أنت ترى أنه لا يفهم ، فأعلم أن هناك ملايين الإخوان يؤيدونه في كونه يفهم ، لكنهم لا يؤيدونه لأنه فنان أو مطرب أو مسرحي أو ذو بصيرة ، هم فقط يؤيدونه لأنه إخوان مسلمون .


انتهى الحفل ومع آخر أغنياته وقف الحضور واشتد التصفيق ، كانت متعة لا تعادلها متعة ، متعة أنك قدمت أمرًا تحبه ، وفي نفس الوقت هناك من يهنئك ولا ينهرك ، بل ويهنئك بشدة ولا يكفِّرك .


كنت قد اشتريت أيام الجامعة أحد أشرطة الكاسيت والتي تحوي خطبة لأحد الدعاة المشهورين والمحسوبين على التيار المعتدل ، كان يتحدث في تلك الخطبة عن القراءة وأهميتها ، وأخذ الشيخ يصنف أولويات القراءة ، وفي البداية كان هذا الأمر غير محبب إلى قلبي ، فالقراءة لا تقيدها أولويات ، أخذ يعدد الداعية أولويات القراءة وبدأ بالطبع بالقرآن الكريم ، ثم كتب الحديث فالفقه فالسيرة ، وذكر عشر مراتب للقراءة ، وكان الأدب في المرتبة العاشرة ، بل وشدد على عدم الانجراف في تلك القراءة الأدبية إلا في ما يخدم المراتب الأخرى ، ذلك أنها قراءة ليست بذات أهمية .


كان هذا الأمر يسبب لي ألما لكوني أعشق الأدب بكل درجاته ، خصوصا فن الرواية ، بل إنني أزيد في انحلالي وفسقي وأقرأ آدابًا مترجمة لروائين كفار وملاحدة !


حاولت أن ألتزم بما ورد في تلك الخطبة وقررت أن أنفض عني هذا الذنب ، توجهت إلى مكتبات الأزهر واشتريت عدة مجلدات في الفقه والسيرة والتفاسير وعدت بها إلى المنزل ، وضعتها أمامي وحاولت جاهدًا أن أقرأ ما قال عنه الشيخ إنه الفلاح ، أمسكت بأول كتاب وكان في السيرة النبوية لأحد الشيوخ الصاعدين على السطح حديثا أيضا والمحسوب على تيار الإسلام الوسطى ، وبعد أن قرأت بضع صفحات وجدت الشيخ فجأة قد خرج عن السياق وأرسل كلمات تكفيرية وجهها إلى التيار العلماني .


فور أن سقطت عيناي على تلك الكلمات قمت بإغلاق الكتاب ، أمسكت الآخر فكان على نفس النهج التكفيري ، الرافض لكل ما هو غير ما يبتغون ، ويا ليت كان الرفض خلافًا في الرأى أو الرؤية ، إنما كانت تلك الكتب تصور أن الخلاف عقائدي .


تركت تلك القراءات وذهبت إلى المكتبة واشتريت رواية « أولاد حارتنا » لنجيب محفوظ ، كانت قد صدرت حديثا عن « دار الشروق » بعد سنوات من المنع ، ذهبت إلى درس القرآن وأنا أحمل في يدي تلك الرواية ، فما كان من زملاء الحلقة إلا أن نهروني لأنني اشتريت رواية لهذا الأديب الكافر ، ومال علي أحدهم وأخبرني أن هناك كتابًا لأحد شيوخ السعودية صدر حديثا في ثمانية مجلدات يتحدث عن الكتب التى حذر منها العلماء ، وكان يحمل في يده أحد تلك الأجزاء .


أعطاني الكتاب لكي أقرأه وأنقذ نفسي من تلك الضلالات ، كعادتي نظرت في الفهرس أولا ، فصدمت عندما وجدت أن الشيخ محمد الغزالي قد وضع كتاب من كتبه بين تلك الكتب ، كتاب (هموم داعية ) .


لقد تعدى الأمر مجرد الروايات والقصص وصارت حتى الكتب الدينية محل نقد ، هذا الدين يصلح وهذا الدين لا يصلح . لكن أي علماء هؤلاء من أعطوا أنفسهم الحق في تحديد من يصلح ومن لا يصلح من العلماء ؟


وفي تلك اللحظة بدأ السلفيون يدخلون على خطوط حياتي بجوار الإخوان .


فور الانتهاء من انتخابات مجلس الشعب كأول مجلس منتخب بحرية بعد الثورة طار إلى مسامعى أن المسؤول عن لجنة التعليم داخل المجلس أحد أعضاء حزب النور السلفي ، فعلت ضحكاتي بشكل هستيري ، ولكنه ضحك كالبكاء . ليس لدي ما يمنع أن يتحكم الإخوان وأخواتها في كل الوزارات ، لكن رجاء خاص ، أطلقوا أيديكم عن كل ما له علاقة بالثقافة والتعليم ، فأصحاب الدعوة القائلة إن الأدب علم لا ينفع لا يتسنى لهم أن ينهضوا بالتعليم .


الحلقة السادسة



كانت دائرة مغلقة ، أسوارا عالية ، إلا أنها ما لبثت أن أوشكت على الانهيار . كان انتقالي إلى المدرسة الثانوية بمدينة أخرى بداية هذا الانهيار . المدرسة الإعدادية حتى وإن كانت في قرية أخرى غير قريتي إلا أنها لا تزال قرية ، تحمل نفس الأفكار التي تحملها قريتي ، فالقرى ليست في حاجة إلى أديان تشدد على أهلها ، فأعرافهم وتقاليدهم تكفي وزيادة ، أما المدن فالأمر نوعا ما مختلف .



وكما أنه كان هناك صعود في مواطِن ، كان هناك هبوط في مواطِن أخرى ، فكلما زاد اهتمامي بمحاولة الخروج من شرنقة الإخوان ، وكلما زاد اهتمامي بالسعي لإيجاد إجابة لتساؤلاتي ، كان هناك هبوط في مستواي الدراسي ، وكان هناك هبوط في علاقاتي الاجتماعية وصداقاتي .



محاولاتي للخروج من الإخوان كانت تستلزم تركي تلك البيئة بالكلية ، حتى تلك الأسرة التي كنت أجلس معها في دائرتي الإخوانية ، كنت لا أجد سعادة وأنا معهم ، هم أضحوا أصدقاء لا يفارقون بعضهم ، حاولوا كثيرا إدماجي في صداقتهم تلك ، غير أنهم لم يفلحوا ، كنت في واد آخر ، وعوالم أخرى ، تدور كلها في فلك البحث عن النفس .



بدأت أملّ من دراستي ، لم أكن أجد بين ظهراني كتبي المدرسية أي إجابات تشفي الغليل ، كانت عقيمة ، يعلوها التخلف ، لا أدري من هذا الذي ابتلينا به صاحب فكرة الكتب المدرسية تلك .



نوعا ما كنت أجد الملاذ في كتاب التاريخ وكتاب النصوص الشعرية على ما فيهما من نقص يخل دائما بالنص ، غير أني كنت أحصل على طرف الخيط من تلك النصوص وأغذيها بقراءات حرة من الخارج .



أستعين دائما بمكتبة المدرسة ، لم أكن أملك من المال ما يكفي لشراء الكتب ، وأبي كان يجد في القراءة الحرة ملهاة عن دراستي الأصلية التي ستجعل مني إنسانا مرموقا ، فكان لا يعطيني المال اللازم لشراء الكتب ، أو بمعنى أدق فإن راتبه الحكومي كان لا يكفي إلا لما يسد رمق أسرة مكونة من زوج وزوجة وخمسة أبناء .



ومكتبات الإخوان كانت لا تحوي سوى كتب الفقه والسيرة والعقيدة التي يكتبها رجالات الإخوان ليقرأها الإخوان .



كان العثور على رواية في تلك الآونة بمثابة من وجد كنزا لا مثيل له ، لكن هذا الأمر لم يلبث إلى حين ، ذلك أنه كانت لدينا جارة تدرس في الجامعة كانت تملك مكتبة ضخمة ، العجيب أنها لم تكن يوما من الإخوان ، وهذا أمر جلل في قريتي ، كيف كان لها أن تفلت من براثنهم ، خصوصا أنهم يلقون شباكهم أكثر حول الطلبة والتلاميذ ؟



تواصلت مع تلك الجارة وكانت تمدني دائما بالروايات والقصص ، توماس مور ، شكسبير ، تشارلز ديكنز ، أذكر أني قرأت تشارلز ديكنز في عام 1996 ، كنت حينها على مشارف الالتحاق بالمدرسة الإعدادية ، أوليفر تويست ، لا أعرف لماذا كنت أعشق تلك الرواية لتشارلز ، هل كنت أنا الآخر أبحث عن عائلتي بعيدا عن هؤلاء الذين اغتصبوا طفولتي .



مثلت لي مكتبة المدرسة ومكتبة جارتي العون على مسعاي ، غير أن هذا السعي عاد بالسلب على دراستي ، وتحولت من قائمة المتفوقين إلى قائمة الأغبياء على حد قول بعض أساتذتي ، غير أن بعضهم كان يراني مختلفا ، خصوصا أستاذَي التاريخ واللغة العربية ، أما غيرهما فكان يرى أن أمثالي لا حل لهم سوى أن يتركوا أماكنهم لأناس لهم عقل أرقي ، هؤلاء الأغبياء كانوا لا يقلون قتلا للإبداع عن الإخوان .



لم تكن الصورة قد تشكلت بعد وأنا في تلك المرحلة ، فلم أترجم أحاسيسي حينها على أنها بداية الخروج من الدائرة ، إنما ترجمتها أنها ضعف عقيدة ، وإيمان أضحى هزيلا ويجب تقويته ، هكذا تعلمنا .



السؤال عن بعض الأمور في جماعة الإخوان أو التيار الإسلامي عامة يعد ضعفا في العقيدة وجب مداواته . يقولون إذا تعارض النص مع العقل قدم النص على العقل ، وقد كنت أجد صعوبة في تقديم النص ، أي أن إيماني بعقيدة أهل السنة إيمان منقوص ، لهذا كنت أسعى لتقوية إيماني بالاستزادة من الصلاة والقيام وقراءة القرآن .



أذكر أنه في مرحلة من مراحل الترك مرّ علي عام كامل وكأني راهب يحيى في صومعة ، قيام وصلاة وقرآن ودعاء ، كنت أسعى لقتل تلك الوساوس ، لأن أشد من أزري الواهن كما أخبروني ، كنت في عزلة تامة عن كل ما هو دنيوي ، وكنت دائما ما أسعى للتطهر من هذا الرجس والنجس الذي تفشى في مجتمعاتنا ، غناء وفن وحب وملهاة عن ذكر الله ، هل مرّ على أحدكم عام كامل لم يشاهد تلفازا أو يستمع لإحدى روائع أم كلثوم ؟



سوى أني لم أدرك إلا حديثا أنهم هم الواهنون ، قال أحد شيوخ الصوفية « كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة » ، هل كانت عبارة الإخوان المسلمين أضيق من رؤيتي ؟ ربما .



المرحلة الثانوية كانت مرحلة من الثراء لا تقارن بأي حال من الأحوال بأي مرحلة أخرى ، فالمذاق الأول لكل شىء يكون له صدى أوقع ، وفي تلك المرحلة كان المذاق الأول لألوان حياتية عدة . ولو تمكن لي أن أقدم الشكر لشىء ما ، لقدمت الشكر لمكتبة تلك المدرسة التي احتوتني بأرففها التي غزت عقلي حينها بما احتوته من مئات الكتب .



ولأن المدينة تملك أخلاقا تختلف نوعا ما عن أخلاق القرية فقد عينت نفسي نبي تلك المدرسة التي جاء لينشل طلابها من الضياع . أذكر تلك الخطب العصماء التي كنت ألقيها على الطلاب في فصلي عن الجنة والنار والطاعة ، عن فلسطين وحربنا مع اليهود ، كان الأساتذة إن أرادوا أن يهربوا بأعصابهم من حصة مملة طلبوا مني الحديث مع الأصدقاء عن هذا الدين الجديد . كنت أبشرهم بالإخوان المسلمين ، الذين جاؤوا لينشلوهم من الضياع ، وكان هذا الأمر يسمى في الإخوان الدعوة الفردية ، فأنت مطالب دائما بإحضار أحدهم لإعانته على الهداية والعودة من ضلاله .



ولأن احتياجي إلى المال كان يسبب لي أرقا حينها عرض علي أحد شباب الإخوان الأكبر مني سنا ، الذي كان يملك مكتبة لبيع الأدوات المدرسية والأشرطة الدينية والكتيبات الإسلامية أن أبيع تلك الحاجيات للطلبة في مدرستي ، وقد كان .



كنت أذهب إليه يوميا لإحضار ما يتسنى لي حمله من الأشرطة والملصقات التي تحمل أذكارا وأدعية وأعمل على بيعها بين أصدقائي في المدرسة .

كان هذا الأمر يدر دخلا ليس بالقليل حينها ، كانت نسبة الأرباح تعادل الضعف من الثمن الأصلي في أحيان كثيرة ، فأنت تشتري تلك الأشياء بأثمان بخسة وتبيعها كما تشاء ولن يعارضك أحد ، فهل يقدر أحدهم أن يفاصل في سعر أشرطة دينية للشيخ محمد حسان أو حسين يعقوب أو أبو إسحاق الحويني ؟



إنها من علامات ضعف الإيمان ونقص الدين ، أنت تشتري وتدفع كأنك تتصدق بهذا المال ، فهي ليست تجارة في نظرك ، هي أموال تخرج في سبيل الله للتزود من علم الله .



وبدأ أول ملامح استغلال الدين يتشكل في عقلي ، ورغم أنها مصالح وتجارة ، فإن هيئتي الدينية وحديثي المفعم بالإيمان كان يلهي المشترين عن مكاسبي التي أجنيها من ورائهم ، وكان يعطيني الأمان أن أحدهم لن يسرقني أو يجهدني في الحصول على مالي .



أما المال الذي كنت أجنيه فكنت أشتري به أنا الآخر تلك الأشرطة والملصقات ، أنا أيضا رغم إدراكي للأمر كنت أشتري تلك الحاجيات باعتبارها أمورا أتقرب بها إلى الله ، دون أن ألحظ أن صديقي الإخواني هذا الذى يعطيني الأشرطة والملصقات الدينية ، والذي ما زال طالبا في الجامعة قد اشترى جهازا قد ظهر حديثا يقولون إنه بإمكانك أن تحادث أحدهم من خلاله دون أسلاك ، يسمى الهاتف الخلوى ( الموبايل ) وكان سعره حينها يجاوز الألف جنيه .



ضعف مستواي الدراسي حينها ، الذي تسبب في نفور الطلبة والأساتذة من حولي ، وإدراكي دور الدين في استقطاب اهتمام الآخرين مما قد يسد هذا النقص جعلني أتمادى لا إراديا في استخدام هذا الأمر ، فأخذت أظهر هذا الأمر .



ساعدتني قصة تجارة الأشرطة والملصقات والكتيبات الدينية تلك في سد هذا النقص ، إلى جانب ذلك اشتركت في الإذاعة المدرسية ، كنت مختصا باستحضار حكمة يومية لأحد الحكماء أو الفقهاء وإلقائها على الطلبة ، أحدثت نقلة نوعا ما في تلك الحكمة المدرسية التي عاصرناها جميعا .



جميعكم يذكر هذا الطالب الذي يقف في الإذاعة المدرسية ثم يلقي علينا حكمته التي من المؤكد أنها ليست المرة الأولى ، ومن المؤكد أيضا أن مدارس مصر جميعها قد سمعتها في إذاعاتها المدرسية : « العقل السليم في الجسم السليم ، ولا تؤجل عمل اليوم إلى الغد » .



استخدمت قراءاتي المتعددة وهذا الكنز الذي تحتويه مكتبة المدرسة في الحصول على حكمة يومية أرددها على مسامع الطلبة ، أسعدني جدا قول أحد أساتذتي عندما قال لي إنه لم يكن يفضل حضور طابور الصباح لكونه يراه مملا ، لكنه أضحى يحضر الطابور خصيصا كي يستمع لتلك الحكمة .



هذا الأمر ساعدني لأن أتدرج سريعا في موقعي في الإذاعة المدرسية حتى صرت المسؤول عنها ، فاستخدمت هذا الأمر لإحداث نقلة أخرى .



كنت يوميا ألخص الأحداث الجارية على الساحة السياسية في بضعة أسطر ثم أقرؤها على الطلبة في الإذاعة المدرسية ، وكانت مصطبغة بالصبغة الإسلامية دائما ، من باب أنقذوا غزة ، وجنين تقتل ، أفغانستان ، العراق ، ولم أكن أبذل العناء لتلخيص أحوال الفقر والجهل والمرض المتفشي في أهل بلدي ، فتلك الأمور لم تكن موضع اهتمام داخل دوائرنا كما أخبرتكم سالفا .



كنت أستعين بتلك الملصقات التي أبيعها في أموري تلك ، كنت أحضر باكرا إلى المدرسة ومن ثم أضع بعض تلك الملصقات للشهيدة إيمان حجو الفلسطينية ذات الأربعة أشهر ، أو صورة أخرى للطفل محمد الدرة الذي قتل في أحضان والده ، ولم تكن تمر دقائق حتى يأتي مدير المدرسة مسرعا ليرى من ارتكب تلك الفعلة النكراء ، وينزع الملصقات ، فيأتي اليوم الذي يليه فأضعها مرة أخرى .



لما اشتد الأمر وأضحيت أتمادى في الهجوم على سياسات أمريكا واليهود ضد المسلمين ، ولما أضحت الإذاعة المدرسية ذات معنى بعد أن احتلها شباب الإخوان المسلمين ، قررت إدارة المدرسة تغيير المسؤول عن الإذاعة بمسؤول آخر . كان يحاول التقليل من وطأة أفعالنا نوعا ما ، إلا أن تمادي الآلة العسكرية الإسرائيلية في قتل مسلمي فلسطين وخروج عديد من المظاهرات في مدراس مصر تضامنا مع انتفاضة فلسطين في عام 2001 دفعني إلى أن أقيم يوما مشهودا في الإذاعة حينها .



أعددت بضعة أسطر كانوا أقرب إلى السب والقذف في الغرب الكافر ، وفي أثناء خطابي في الإذاعة قامت إدارة المدرسة بفصل الكهرباء عن الميكروفون محاولين منعي من إكمال خطابي ، غير أني لم أنته ، فتقدمت إلى منتصف الفناء الخاص بالمدرسة وأكملت خطابي بصوت جهوري ارتجت له أركان نفسي ، فوجدت مدير المدرسة وقد أسرع إلى الميكروفون -الذي أعادوا إليه الكهرباء - وأخذ يرد على ما قلت كلمة بكلمة ، وينعته بأنه كذب وافتراء وأنني لا أفقه من أمري شيئا .



وتم اصطحابي إلى غرفة المدير وأخبرني المدرس المسؤول عن الإذاعة أن رجالا من أمن الدولة قد حضروا إلى المدرسة لما وصلهم من إثارة بعض القلاقل من جانب بعض الطلاب ، وأنهم يخشون علينا باعتبارنا أبناءهم ، وأنهم سيعطوننا فرصة أخيرة للعودة من هذا الطريق الذي لن يقودنا إلا إلى كل شر .



بمجرد أن خرجت من غرفة المدير صعدت إلى فصلي الدراسي وأخذت أحدث بعض زملائي عن أننا يجب أن يكون لنا دور في هذا الذي يحدث ، ضاربا بعرض الحائط تهديد أستاذي وكلامه عن أمن الدولة .



طلبوا مني حينها كتابة بعض الهتافات ، كان القرار أن نخرج في تظاهرة بعد انتهاء اليوم الدراسي ، ما لبثت أن سقطت كلمة تظاهرة على مسامعي حتى أصابتني تلك الرجفة من جديد، وعادت الرعشات إلى يدي وقدمي ، لقد طلبوا مني أن أتقدمهم ، ولكني خذلتهم ، بمجرد انتهاء اليوم الدراسي تركتهم وذهبت ، ولكنهم نفذوا عمليا على أرض الواقع ما جبنت أنا عنه حينها .



هل حقا جبنت ؟ أم أنه الخوف من القيادة الذي حبب إلى قلبى أن أكون تابعا لا متبوعا ؟ أم أننى أردت أولا أن أستأذن من شيخي ؟ لقد خرجت في مظاهرات عدة ، وشاركت في تجمعات إخوانية لا حصر لها ، غير أن تلك المرة كان لزاما علي أن أقرر وحدي دون أن يقرر لي أحدهم ، ولكنى عجزت عن اتخاذ قراري منفردا .


في اليوم التالي حضرت إلى المدرسة غير أن العديد من أصدقائي لم يحضر . وصل إلى مسامعي أنها كانت معركة حقا مع رجال الأمن المركزي والشرطة ، فبعد أن خرج طلاب مدرستي الثانوية إلى الشارع للتظاهر انضم إليهم طلبة المدرسة الإعدادية وطلبة المدرسة الثانوية الفنية والتحموا في مسيرة حاشدة . لم تتركهم قوات الأمن كثيرا ، ذلك أن مدرستي كانت تجاور منطقة عسكرية وليست ببعيدة عن قسم الشرطة ، فما لبث العسكر أن هاجموا المسيرة وأعملوا هراواتهم في أصدقائي واعتقلوا بعضهم ، وكان منهم صديقي عمرو عاطف الذي لا أعلم أين أراضيه الآن ، وصديق آخر هو محمد عبد اللطيف الذي ما زلت على تواصل معه وكان أحد المشاركين في ثورة يناير .



تملكتني الحسرة واعتراني الندم لأنني تهاونت في حق أصدقائي ، كان يجب أن أتصدرهم في هذا الأمر ، فأنا من بدأت الأمر ، وتركي لهم الآن لا ترجمة له سوى أنه نفاق . هل يقول الإخوان ما لا يفعلون ، أم أن هذا أمر خاص بي ؟



حضر أصدقائي بعد يومين من الحادثة وكانوا يسيرون وقد بدا عليهم أثر التعذيب . علمت منهم أنهم كانوا في المقدمة وأنهم نالوا الحظ الأوفر من الضرب بهراوات الشرطة ، ومن ثم تم اعتقالهم واحتجازهم في سيارة الشرطة حتى انتهاء التظاهرة ومن ثم تركوهم . لم أجد الكلمات التي أبرر بها موقفي ، غير أن تعاملهم معي لم يجعلني في حاجة إلى تلك الكلمات .



لقد نسيت أنني الشيخ فلان ، والشيوخ من المؤكد أنهم دائما على صواب ، فهم لا يكذبون ، ولا ينافقون ، وهم أهل الله وخاصته . أدركت للمرة الثانية كيف أن الأديان قد تجعل الحقيقة مشوشة لدى الأتباع ، فأنت تعامل رجال الدين على أنهم هم الدين ، وأن أي طعن فيهم هو بالضرورة طعن في الدين ، وحتى تهرب من الطعن في الدين الذي قد يهوي بك في نار جهنم فأنت دائما ما تجد لهم المبرر ، وهكذا سحل وضرب واعتقل أصدقائي وأضحيت أنا البطل وبكل سهولة ، ودون عناء إلا أني لم أقوَ على تحمل هذا الأمر ، لم أقوَ على تحمل أن أكون كاذبا أقول ما لا أفعل ، فكانت رحلة تركي الأولى للإخوان ، تلك التي لم تحللني كليا من ربقتهم ، غير أنها كانت أول مسمار دق في نعش دائرتهم .




الحلقة السابعة

الاتهام الجاهز داخل الإخوان : أنت ضعيف العقيدة والإيمان



كنت أعجب من هذا الشيخ الذي لا يكل ولا يمل ، وكنت أسأل نفسي دومًا ألا ينام ؟! هو شاب في منتصف العقد الثالث من عمره ، ورغم تلك السن الصغيرة كان زوجًا وأبًا لطفلة في السادسة من عمرها أي أنه تزوج قبل أن يبلغ العشرين . تعود الجيران على هذا الطارق الذي يأتيني فجرًا ، يرسل دقاته المميزة على الباب فيخرج أبي ليخبره أني نائم ، فيطلب منه إيقاظي ، وأبي ينفذ أمره بكل مرونة ، أخرج عليه فأتحجج بأي حجة قد تمكنني من الهروب من هذا الوِرد اليومي ، لكن دائمًا ما تفشل محاولاتي .



أذكر أني خرجت عليه مرة لا أرتدى سوى بنطال دون شىء يستر الجزء العلوي من جسدي ، أخبرته بأنه لا توجد ملابس نظيفة أرتديها لأذهب معه لأداء صلاة الفجر في المسجد ، فما كان منه إلا أن استوقف أحد الجيران ، وهو في طريقه إلى المسجد وطلب منه إحضار شىء من منزله أرتديه للذهاب معهما .



كنت أظنه في أوقات عدة مصابًا بمس من الجنون ، وفي أوقات أخرى كنت أحسده على مثابرته وصبره ، كانت له إرادة غريبة ، لكنها لم تكن تتحرك إلا لأجل الإخوان المسلمين ودعوتهم . هو ذلك الشيخ الذي رمقني بعين الاهتمام في المسجد . إنه شيخي الذي دخلتُ على يديه تلك الدائرة ، دائرة الإخوان ، التي لم أخرج منها إلا في عام 2005 ، والتي ظللت لخمس سنوات من 2005 إلى 2010 أتحلل من أدرانها .



لم يكن شيخًا بالمعنى الأزهري ، هو شخص ملتزم ، هذا الالتزام العادي الذي يميز مجتمعاتنا المسلمة ، حاصل على تعليم متوسط ، يقرأ كثيرًا في العلوم الفقهية والتاريخ الإسلامي . إلا أننا في مجتمعاتنا الشرقية لا نبخل بإضفاء ألقاب مثل الشيخ فلان ومولانا فلان على كل من ظهرت عليه أدنى بوادر الالتزام .



بل إنني حتى الآن ، ورغم كوني انفصلت عن التيار الإسلامي وطلّقت مظاهره منذ سنوات ، فإنني أجد في قريتي من لا يزال لا يدعوني باسمي مجردًا ، يجب أن يسبقه بلقب الشيخ أو مولانا ، على الرغم من كوني وطبقًا لتعاليم الإسلام من المفترض أن أدرج تحت لقب مسلم عاصٍ ، غير أنهم ألبسوني اللقب ، وليس من المفترض لأحد أن ينزعه عني . حتى اللحظة ، هناك أناس يستفتونني في أمور دينهم ودنياهم . أحاول الخروج من هذا المأزق بأقل الخسائر . أخشى أن أفسد عليهم دينهم فأتحول من مسلم عاصٍ إلى مسلم مرتد . غير أن شيخي حقًا كان يستحق هذا اللقب ، كنت لا تراه إلا في المسجد ، أو ذاهبًا إلى المسجد ، أو عائدًا من المسجد .



كان يهب حياته كلها لخدمة دينه المتمثل في خدمة جماعة الإخوان المسلمين . هو الآن مسؤول الأشبال داخل شعبة الإخوان في القرية . كان يملك تلك القدرة على التعامل مع الأطفال واحتوائهم ، وكان يحمل على عاتقه مسؤولية كل طفل في القرية وكأنه أب لهم جميعًا . أذكر أن هناك أحد الأطفال قد خرج من ربقتهم ، كان متمردًا ويميل إلى اللعب واللهو ، كان لا يقرب المسجد ، وإن دخل ليصلي أثار زوبعة ، وأخذ يؤرق على المصلين صلواتهم ، فما كان من شيخي في أحد الأيام إلا أن صرخ أمامنا بحضور آخرين من شباب الإخوان قائلا : (هو ماحدش عارف يجيب رجل الواد ده ؟) ، وطلب من أحدهم خصيصًا أن يتفرغ له ، هذا ما يسمى كما قلت سابقًا الدعوة الفردية داخل الجماعة .



لم أستطع أن أحدد حينها ، هل يعاملني شيخي معاملة خاصة ، أم أنه هكذا مع كل الأطفال ؟! لكن ، وهل يمر على جميع الأطفال في منازلهم ليأخذهم لأداء صلاة الفجر في المسجد ؟! هل يلتقي بكل الأطفال في بيته في كل وقت وفي أي وقت ؟! هو من ساعدني على استخدام صوتي الذي ظنوه حسنًا حينها في الإنشاد في أثناء تجمعات الإخوان في القرية .



كان لا يمل ولا يؤجل عمل اللحظة إلى اللحظة التي تليها . كنا نبدأ يومنا بعد صلاة الفجر ، نذهب إلى المسجد ونصلي ، ومن ثم نلبث قليلا في المسجد نقرأ القرآن وبعض الأذكار والأدعية ، ثم يسأل كلا منا عن تأدية بعض التكليفات التي تكون قد طلبت منه خلال الأسبوع ، مثل إقامة الصلوات ، إخراج بعض الصدقات ، حسن معاملة الأب والأم ، صلوات السنن ، الأدعية والأذكار ، وكانت تكتب تلك الأمور في ورقة على شكل مربعات ونقيِّم كل عمل في الخانة التي تقابله بوضع علامات تفيد بالإتيان بالعمل أو عدم الإتيان به .



ربما هذا الورد تسبب في كرهي للجداول والنظام وترتيب يومي ، ذلك أنني دائمًا ما كنت أعجز عن القيام بكل ما فيه إضافة إلى كوني طفلًا في الحادية عشرة من عمره من المفترض أن يكون مع الأطفال في مثل سنه الآن يلعب ويلهو ، يثير القلاقل ويزعج والديه بتلك الشقاوة المعهودة في الأطفال ، يشارك الأطفال حياتهم التي تناسب تلك السن ، لا أن يقوم بأشياء يعجز عن الإتيان بها رجال لهم شوارب ، بل وربما شيوخ ورجال دين .



كان شيخي بمجرد الانتهاء من تلك الجلسة يأخذنا إلى بيته للإعداد لخطبة ما نلقيها في المسجد ، أو التمرن على بعض الأناشيد التي نلقيها في احتفاليات الإخوان . أرى أن أحدكم أثاره أمر أن يُلقى طفل خطبة في المسجد ، هي لم تكن خطبة بالشكل المتعارف عليه ، إنما بضعة سطور حوت أحاديث وآيات من القرآن والمواعظ التي نقرأها من ورقة قد أعدها الشيخ سلفًا ، نقوم بإلقائها على مسامع الحضور بالمسجد بعد الانتهاء من الصلاة ، وهكذا بشكل شبه منتظم وفي أغلب مساجد القرية .



ولأنه كان شيخي فكنت أعمد إلى تقليده في كل شىء . أردت أن أكون نسخة مكررة منه ، كنت أعتقد أنه من الصواب أن أعيش حياة إنسان آخر له من الظروف والمكتسبات والقدرات التي تؤهله لمكانته والتي من المؤكد أنها على غير ظروفي ومكتسباتي وقدراتي ، فهو هو لأنه يحيى نفسه ، أما أنا فلن أكون لا أنا ولا غيري ، ذلك لأنني سرت في الطريق الخطأ ، ربما أن مسلكي هذا ساعدني في الخروج من دائرتهم ، ذلك أنني كنت دائم الإحساس أني أحارب من أجل إنسان آخر ، وقضية ليست قضيتي .



لقد دخلت الجماعة بهذا الشخص ، وظللت فيها من أجله ، وتركتها أيضًا لأجله ، ولو أنه في أحيان كثيرة قبل أن أتخلص من ربقتهم بالكلية كان قد أمرني بالرجوع لكنت عدت إلى دائرتهم من جديد ، لا أجد تفسيرًا لذلك ، قد يدرك أحدكم من المهتمين بالسلوك الإنساني مغزى تلك العلاقة .



شيخي هذا كان مسؤولا عن الأشبال في القرية ممن هم دون سن معينة ، فأنت بمجرد أن تبلغ سنًا محددة يتم نقلك إلى مستوى آخر ، من المفترض أنه أكثر اهتمامًا ، وبمستوى تربوي مختلف ، وكلها تدور في فلك إعداد الفرد المسلم الذي سيكبر ليتزوج امرأة مسلمة ، ومن ثم تتكون الأسرة المسلمة ، فالمجتمع المسلم ، فالدولة المسلمة فالعالَم المسلم ، ومن ثم التحكم في العالم أو ما يسمى داخل دوائر الإخوان بأستاذية العالم .



بعد سنتين تقريبًا من وجودي مع شيخي انتقل بي الدرب إلى شيخ آخر ، ومن ثم إلى ثالث فرابع فخامس فسادس ، غير أنهم لم يسدوا يومًا هذا الفراغ الذي تركه في نفسي فقْد شيخي ، إضافة إلى كوني لم ألمس فيهم نفس هذا الإخلاص وتلك الجدية ، البذل من أجل الدعوة ، لم يعد هناك من يأتيني فجرًا ليرى لماذا لا أصلى الفجر !



لم يعد هناك من يهتم بالوِرد الأسبوعي ، لم يعد هناك من يهتم بنا أصلا ، وبدأت أشعر أن الكلام في دوائرنا مكرر ، نفس القَصَص القرآني ، نفس الأحاديث ، نفس الشخصيات الإسلامية التي كنا نتدارسها ، هي هي لا تتبدل ، وبمرور الوقت لم يعد يهتم بنا أحد أصلا ، هل كانوا يريدونني بينهم حقا ؟



تلك الأسرة التى كنت أنتمي إليها في المرحلة الأولى لم أنتقل معها في مرحلتى الثانية ، انتقلت إلى أسرة أخرى تميز أعضاؤها بالإهمال والتمرد وعدم الطاعة ، أما الأسرة الأولى التي نشأتُ فيها فقد انتقل بعضهم إلى أسرة أخرى ، والباقي لم يستمر داخل الدائرة ، إما بسبب رفض الأهل الوجود داخل تلك الدائرة ، نظرًا إلى مطاردة الأمن للإخوان أو لاختلاف تلك العائلات مع الإخوان في الفكر ، كأن يكونوا سلفيين أو أعضاءً في جماعة أخرى ، أو لأنهم لا يهتمون أصلا سوى بالدفع بأبنائهم الصغار لإحدى ورش العمل للحصول على المال من ورائهم .



ذكّرتني تلك الأسرة التي انضممت إليها حديثًا بفصول المتفوقين وفصول الطلاب المتخلفين التي كنا نراها في المدارس . كانت في منتهى العنصرية ، فأنت تجمع كل من تظن أنه لا أمل فيهم في مكان واحد ، وتبدأ في نبذهم وكأنهم نجس . تلك رؤية قد تصح وقد تخطئ ، غير أن مقابلة مع الشيخ حدثت بعد سنوات من تركي الجماعة أعادت السؤال إلى ذهني من جديد ، ذلك أنه أخبرني أنه كان يعلم أنني لن أستمر ، ذلك أنهم أخبروه أنه لا أمل في استمرارى معهم .



اكتفى بتلك الكلمات وذهب ، وتركني والأسئلة تضرب برأسي ، من هؤلاء الذين أخبروه ؟ وما الذي رأوه مني كي يحكموا بأني لن أستمر ؟ وعلى أي معيار صدر هذا الحكم ؟ هل داخل هذا التنظيم أناس يختارون ؟ وهل هناك معايير وضعت للاختيار ؟ وهل التمرد وعدم الطاعة من أهم أسباب الترك ونبذ العضو من داخل الجماعة ؟ لم أكن مهتمًا بالقراءة عن الجماعة من الداخل أو من الخارج بعد تركي لها ، ولذا فليس لدي إجابات ، كل ما أسطره الآن مجرد أحاسيس عايشتها ، نابعة من حقائق مررت بها .



ولو افترضنا أنني في نظرهم متمرد أو أني مسلم عاصٍ ، فلماذا لم يعينوني على نفسي ؟ أليست هي في الأصل جماعة دينية جاءت لنشر الفضيلة والأخذ بيد الناس للخروج من الضلال لعالم الهداية ؟ أم أنهم يختارون من يستحقون الهداية في نظرهم وينبذون الآخر ؟ وهل جاءت دعوة الإسلام لأناس دون أناس ؟ أم أنهم أصلًا ليسوا جماعة دينية ولا إسلامية وعلومهم في الدين ليست بذات الأثر إنما هي جماعة تلحفت بالدين كرداء للوصول إلى غاية معينة أصلها في نفوسهم إمامهم حسن البنا ؟ هل الأمر دين أم استخدام للدين ؟ لو كان دينًا لِمَ ميزوا أشخاصًا عن آخرين ولجاهدوا ، لأن تصل دعوتهم إلى الجميع ، ولصبوا اهتمامهم على التربية والدعوة وتكوين الفرد المسلم أكثر من اهتمامهم بانتخابات الشعب والشورى وإنشاء الأحزاب والوصول إلى الحكم ، ولو كان الأمر دنيا فلِمَ يميزون أنفسهم عن الآخر بارتداء عباءة الدين ؟ ذلك أن استخدامهم الدين يخل بشرف المنافسة مع الآخر ، أو ما يطلق عليه في دولة القوانين أمرًا غير دستوري ، ذلك أنك تفضل شخصًا عن آخر في كونك تزوده بأدوات تقربه من الغاية في الوقت الذي تنزعها عن غيره .



كنت عندما يضيق بي الحال أتوجه إلى منزل شيخي ، أبث له همي ، وما آلت إليه الحال ، كنت أظن أنه سيتفاعل مع بثي وشكواي ، غير أنه لم يكن يكترث ، لم يكن هذا الذى لا يكل ولا يمل ، هل انتهت مهمته المحددة باستقطاب الأطفال ؟ أم أنه لا يملك سوى تلك القدرة وفقط ، وليست له قدرات أخرى ؟ كان من أهم عيوبه أنه شديد الجانب ، نادرًا ما يضحك ، وكان لا يتورع عن تأنيب شخص أخطأ ، وكنت أنا على الوجه الآخر في حاجة إلى هذا الشخص لين الجانب الذى يسمعنى . كنت فقط أحتاج إلى شخص يسمع ، يشعرني أنني لست وحدي ، لا يسخر من تساؤلاتي ، ولا يسفه رأيي ، ولا يرد على تساؤلاتي بهذا الرد المعتاد لدى الإخوان المسلمين .. أنت ذو عقيدة ضعيفة.. أو إن إيمانك يفتر .



كنت أريد من يحترم تلك التساؤلات ، غير أنه وحتى اللحظة لا يوجد في رجال الدين خاصة والمتدينين عامة مَن يحترم تلك التساؤلات ، فتلك مناطق وعرة إن دخل فيها أحدهم صار مرتدًا ، أو شيطانًا ، وإن إحكام العقل فيها درب من دروب الكفر ، وفي أقل الفروض يسفه رأيك ويسخر منك ، وفي أفضل الأحوال يأتيك برد لا علاقة له بسؤالك .



أذكر آخر مرة ذهبت إلى شيخي في منزله قبل أن أبدأ رحلتي مع التحلل والتفكك من ربقة الجماعة ، حينها كنت وكأني أخبره أنني في أشد الاحتياج إليه ، كان الترك حينها ونظرًا إلى تربيتى الدينية التى مزجت فكر الجماعة بالدين تعنى تركى للدين، أنا أسعى فى طريق الكفر. غير أن شيخى نظر إلىّ نظرة لا اهتمام فيها ثم تركنى وذهب لغرفة مجاورة أحضر منها بعض الملابس وأعطانى إياها من باب الصدقة، كان يعلم سوء حال أسرتى المادية، وكان كثيرًا ما يفعل مثل تلك الأمور غير أنى الآن لست فى حاجة إلى أموال، لست فى حاجة إلى صدقات. كنت فى حاجة إلى إنسان لا يسفه اعتقادى، ولا يسخر من رؤياى. أخذت الملابس من شيخى وتركته وذهبت، نظرت إليه والدمع يكاد يتساقط من عينى على حالى، أردت أن أخبر شيخى أن تلك الصدقة أيضا تترك فى نفسى جرحًا، لكنه لم يكن يسمع، كان ينفذ وفقط إرادة الجماعة، بيد أنه تقمص هو الآخر روح شيخه وصار مثلها حتى تحول إلى رجل آخر غير الذى أراد. يطيع وفقط وينفذ وفقط، ويستمر وفقط على هذا النهج الذى وضع، لا يحيد عنه قيد أنملة. خرجت من منزل شيخى، شعرت فور أن أَضحى بيته خلف ظهرى وكأن الماضى كله أضحى هو الآخر خلف ظهرى، وأخذت أبحث لنفسى عن نفسى بين ظهرانى أناس آخرين.
بعد بضعة أعوام حدث احتكاك بينى وبين بعض شباب الإخوان، فأخذت أنتقدهم فى حوارى، فرد أحدهم علىّ بأنى لا أفقه شيئًا، ورد الآخر أن العيب فى هذا الغبى الذى يملى علىّ، ملمحًا إلى أنى أضع عقلى تحت عتبات الإعلام الذى يشوه صورتهم، أو ربما يقصد أنى أتعامل مع أمن الدولة! ورد ثالث أننى أتبع أسلوب «خالف تُعرف»، ورد رابع أننى أسعى للشهرة. ردود متعددة من شباب جامعى، جاءت جميعها مسفِهة لرأيى، وتسخر منه، ولا ترد أيضا على سؤالى. كنت أظن أنهم -وبعد تلك السنوات- سيتغير الإخوان، كنت أظن أنهم -وبعد سقوط النظام الذى كان يحاربهم- سيكونون أكثر انفتاحًا، غير أنه قد حدث العكس، فجميعهم ليسوا أنفسهم. هم تلبّسُوا روح الشيخ، وإرادة الشيخ، ولهذا عندما تحاورهم لا يردون.. هم فى انتظار رد الشيخ.. والذى غالبًا ما ينتظر هو الآخر رد الشيخ الأعلى الذى تلبّس هو الآخر روحه، وهكذا فى دائرة حتى نصل إلى الشيخ الأعلى وسبحان الشيخ الإمام الشهيد الأعلى، وهو فى القبر الآن قد أكله الدود، وليس من المنتظر أن يعود ليجيب عن تساؤلاتى. قد أكون على صواب، وقد أكون على خطأ لكنها رؤياى، فرجاء لا تسفهوا رؤيتى، ولا تسخروا من عقلى.





الحلقة الثامنة

الجنس والمرأة.. في عالم الجماعة


بعد أول حادثة حب دخلت عالم الإخوان وفي هذا العالم زاد خوفي من المرأة وهروبي من أحاسيس العشق
قصة الصدام بين دين الإخوان ودين الحب

كنت أنتظر قدومها بشغف . كانت البسمة التي تعطي مذاقا خاصا للحياة ، بل هي نفسها الحياة . كنت طالبا في الصف الخامس الابتدائي ، من الصعب أن أصف شعوري الحزين إن مر يوم دون رؤياها ، غير أني دائما ما كنت أكتفي بالرؤية . على مدار عام دراسي كامل لم يحدث بيننا حديث مباشر ، ولم أسع ولو للحظة لأن ألفت انتباهها لهذا القلب الذي شغف بها حبا . هل حقا كنت أعرف أنه حب ؟


لكن هل يدرك هذا القلب الذي ما زال في طور النشأة ، والذي لم يطرق بابه بعد إحساس الرغبة في الجنس ، هل يدرك تلك المفاهيم ؟!


كان شعورًا من أروع ما تملكني من أحاسيس ، هو الحب العذري كما أنزل . لكن وفي يوم من تلك الأيام الغبراء التي من الصعب أن تنسى ، دخل علينا أستاذ اللغة العربية مع ناظر ومدير المدرسة ، وقد رسمت خطوط من الغضب على وجوههم تنبئ عن عاصفة لا تبقي ولا تذر .


قال أستاذ اللغة العربية إن والد حبيبتي حضر اليوم إلى المدرسة وأخبرهم أن أحدهم وضع خطابا غراميا لابنته خبأه في حاجياتها ، يبدو أن حبها طرق أبوابا غير بابي . نظرة الناظر والمدير ونبرة صوت المدرس كانت تنبئ أن غضبا سيحل على هؤلاء العصاة الذين أجرموا في حق الإله وقد كان . فكيف لهم أن يحبوا ويعشقوا ؟!

كيف لهم أن يمارسوا هذا الهراء الذي هو في مقام الزنا ؟ علمت إدارة المدرسة اسم من أرسل هذا الخطاب ، غير أن الإدارة أرادت أن يكون العقاب جماعيا حتى لا يرتكب أحدنا تلك الفاحشة المسماة بالحب !


كان العقاب عن طريق الضرب على باطن القدم . وتلك طريقة اتبعت قديما لضرب المخطئين . اشتهرت أكثر في الكتاتيب الخاصة بتحفيظ القرآن ، يقوم أحدهم بإمساك قدميك بإحكام بعد أن تكون قد تمددت على الأرض موجها باطن قدميك لأعلى ، وعن طريق عصاة غليظة يبدأ المدرس بتوجيه ضربات قوية ومتتابعة إليك ، الضربة الواحدة كفيلة بأن تكره الحبيبة والأب والأم والعالم أجمع ، فما بالكم بعشر ضربات ؟


كنت أجلس في أول الصف باعتباري من المتفوقين ، غير أن تفوقي وحفظي للقرآن لم يشفعا لي ، ولأنني أجلس في أول الصف فكنت أول المعاقبين ، وكنت صاحب النصيب الأوفر من الضرب ، لقد أفرغ المدرس شحنة غضبه كلها في أول من عاقب . أنهى المدرس الضربات العشر وكان هناك إجراء احترازي متبع حتى لا تتورم القدمان ، هو أن تسير على القدمين حافيتين لبضع دقائق ، ونظرا لأن الأمر مؤلم فلم يجد المشي نفعا فأخذت أهرول جيئة وذهابا مخترقا الطريق أمام الفصول المجاورة لفصلي الدراسي .


خرج المدرسون جميعا مستفسرين عما يحدث ، وكلما علم أحدهم بالأمر أخرج عصاته وأخذ يضرب فينا هو الآخر ، فصرنا نتحسس أقدامنا وخلفياتنا أيضا كنتيجة لضربها هي الأخرى . استمر هذا التعذيب لما يقارب الساعة ، تم تعذيبنا وكأننا زنينا بالفتاة في ميدان عام ثم قتلناها وقطعناها إربا وحرقناها ومن ثم ألقينا بثراها في الهواء ، لقد كان مجرد خطاب !


ظللت طريح الفراش في منزلي لمدة أسبوع لا أقوى على السير على قدمي ، ولأكثر من أربع سنوات ظللت أعاني من ألم في قدمي وظهري كنتيجة لهذا التعذيب الهمجي . إثر تلك الحادثة تكون لدي رعب من كل ما له علاقة بالحب والفتيات . كنت ألمح إحداهن قادمة من طريق فأحول مساري إلى طريق آخر حتى لا أقابلها ، حتى حبيبتي التي كنت أنتظرها كل يوم ليبدأ يومي وتعلو وجهي بسمتي صرت لا أقوى على النظر إليها . بعد تلك الحادثة ببضعة أسابيع قام والد حبيبتي بنقلها إلى مدرسة أخرى ، ومع تركها لعالمي انتهت أقوى وأول قصة حب في حياتي ، وآخر قصة حب لسنوات قادمة أيضا .


ويبدأ الصراع بين الحب والإخوان مع تلك الحادثة ، فأنا في دائرة الإخوان أخشاه ، لكن في دائرتي السرية أغذيه . كان صراعا تألمت له سنوات ، بين حبيباتي والإخوان ، كنت أسأل نفسي : كيف يتم تحريم هذا الشعور الراقي ؟ كيف يتم حرماننا من تلك المتعة التي لا مثيل لها ؟ وكيف لي أن أكتم عشقي سنوات وسنوات ، منتظرا ورقة وبضعة أناس يسمحون لي بضم حبيبتى بين ذراعي .


بعد تلك الحادثة ببضعة أشهر دخلت عالم الإخوان المسلمين ، وفي هذا العالم زاد خوفي من المرأة وهروبي من أحاسيس العشق ، المرأة في عالم الأديان عامة رجس لا يجب الاقتراب منه ، قد يسطر الفقهاء والقساوسة مجلدات عن احترام الأديان للمرأة ، غير أن الواقع ينبئ أن هناك خللًا بين النظرية والتطبيق . شيئان في عالمي كنت أشعر كأنهما لغز محرم علينا الاقتراب منه : المسيحى والفتيات ، مهما حدثوك عما يسطر في الكتب فاعلم أنهم كاذبون ، لأن ما نعيشه أمر آخر .


حتى تكون أخا ملتزما ، من أولياء الله فعليك أن تنبذ رغبتك في المرأة ، أنت محرم عليك حتى مجرد التفكير فيها ، وإن حدث فأنت إذن صاحب عقيدة مشوبة يجب مداواتها .


بعد تلك الحادثة بأربع سنوات تقريبا عرفت جارة لي كنت أتلمس فيها شيئا ما ، خشيت أن أترجمه حبا . كنت أحاول إيهام نفسي أنها علاقة عادية فرضتها حتمية الرؤية نظرا لأننا متجاوران في السكن وأيضا كوننا ندرس في نفس العام الدراسي . كانت تحاول دائما التقرب مني بأساليب شتى ، هي أول من أهداني شيئا بدعوى عيد ميلادي ، كانت المرة الأولى التى أحتفل فيها بعيد ميلادي وكانت أيضا الأخيرة ، فتلك الأمور من البدع التى يجب تجاوزها .


كانت خمرية اللون أقرب إلى السمرة ، كانت في مثل طولي تقريبا ، كانت تتحدث بكلمات من السرعة بمكان يصعب على أحد مجاراتها فيها ، أظن أنها تركت في لساني منها أثرًا ، فقبل أن أعرفها كنت قليل الكلام ، غير أنني - بعد أن طرقت حياتي - أضحيت أتحدث كأسرع رجل في التاريخ يكاد أصدقائي يحتاجون إلى مترجم لما أقول .


لم أهنأ في تلك العلاقة ولو للحظة ، كانت كلها صراعات ، ما بين هذا الألم النفسي الناتج عن حملة التعذيب التي قادها علينا مدرسو المدرسة الابتدائية والتي تركت في نفسي أثرًا صور لي أن الحب دائما يجب أن يقابله عقاب ، فكنت كلما رأيت فتاة تلفت حولي كمن أجرم وينتظر أن يسقط عليه العقاب ، لم أكن أعلم كيف ولكنه سيأتى لا محالة ، حتى وإن كنا سويا أنا والفتاة لا ثالث لنا ، فكان العقاب ينتظر ساعتها أن يأتي من السماء ، ربما سقط نيزك أو شهاب واصطدم برأسي لأصير بعده كائنا آخر غير الذي أنا عليه الآن ، كان اعتقادًا حقيقيا وليس تشبيها ، وبين تلك القصص والروايات التي نسمعها في دوائر الإخوان والتي تتحدث عن الطهارة وغض البصر وعن غضب الرب الذي يسخط على هؤلاء الذين ينظرون مجرد النظر إلى أي فتاة نظرة حب أو غيرها ، فالنظرة في حد ذاتها محرمة .


كنت أظن أن الإله سيسخطني في الحال إلى مخلوق آخر إن ارتكبت المعصية ، غير أنه وعلى الجانب الآخر كان يدور نزاع في نفسي بين هذا الترهيب من الحب وفي نفس الوقت الترغيب الذي فطرنا عليه ، فكيف هي نجس يستوجب الطهارة وتجديد العقيدة ومن ثم نجد في أنفسنا هذا الانجذاب الفطري لارتشاف العشق من نهرها ؟!


كيف نسمع ليل نهار عن حرمة هذا التمازج بين الشاب والفتاة ، ومن ثم نجد آلاف الأغنيات ومئات الأفلام والمسلسلات التي تتحدث عن الحب والعشق والحبيبة والحبيب ؟!


كنت أقول لنفسى متسائلا : ما هذا الغباء ؟!
فإما أن تحرموا هذا الأمر بالكلية ، وإما أن تتركوا لنا العنان لأن نغرق في هذا العالم .
وفي يوم من تلك الأيام الغبراء أيضا والتي ستستمر معي إلى نهاية الرحلة طلبت مني الفتاة أن نجلس سويا في مكان لا يرانا فيه الأهل ، سيذهب كل منا منفردا ونتقابل في الزمان والمكان المحددين مسبقا .

كنا وكأننا ذاهبان لسرقة أحدهم أو لارتكاب عملية إجرامية ، نخشى أن ترانا عين أحدهم فتفضح فعلتنا النكراء أمام أهلينا . قابلتها وكانت في حالة من الارتباك لم أرها قبلا ، وكانت أيضا في حالة من الأنوثة واللين وكأنها قطعة سكر ذابت في الماء فلم تمسك لها طرفا ، تقلبها يمينا تقلبها شمالا فلن تعجزك شيئا . نظرت لي نظرة لن أنساها ، فيها من الشوق والحنين ما لم أره في عين أي فتاة أخرى عرفتها بعد تلك اللحظة ، سكتت هنيهة ، تنهدت بزفرات وكأنها على وشك أن تطفئ نارًا ألمت بها ، تحولت سمرتها إلى حمرة ربما من الخجل ، ربما من فرط اللذة التي احتوتها ، فهي الآن بين يدي الحبيب .
تحدثت قليلا عن كوني نورا ظهر في حياتها أضاء لها تلك الظلمة التي حيت فيها لسنوات مضت ، قالت إنني مثلت لها هذا الأمل الذي يعطي للحياة لونًا ومذاقًا ويجعلها أكثر سعادة ، ثم ما لبثت أن سكتت للحظات معدودة ، وكأنها تهيئني لتقبل ما هو آت ، ثم قالتها بحنين أذاب قلبي بين ثنايا حروفها :
- أحبك . (صمت) .
- أحبك. (صمت) .

قالتها وصمتت. وطال صمتها ، فعادت وقالت : أحبك لا كما يحب العشاق ، فتلك كلمات أضيق مما يدور بجنباتي ، وأردفت أنها لا تلوي على شىء سوى كونها معي ، وفقط معي ، تحيا على هذا الأمل الذى سيجمعنا يوما سويا ، حين نرتشف من نهر لذته ما يطفئ ظمأ السنين .

(صمت) .


تلبستني حالة من السكون والصمت لكم كرهتها ، كنت أود لو أني ارتشفت من رحيق شفتيها غير ملتفت لمن حولنا ، وهل يوجد أناس غيرنا ؟ وكأني لم أعد أرى سواها ، بل حقا لم أعد أرى سواها . حدثتني نفسي أن ضمها إلى صدرك الآن ، بل أشدد على ضمها كي تكونا جسدا واحدا ، وتحسس هذا الذى تحت حجابها ، وأطلق لمساتك على شفاهها ، وجبينها ، وخديها . كنت أعلم يقينا أني أعشقها ، بل كنت أذوب في ثناياها كلما مرت ، أو نظرت ، أو همست ، فما الحال وهي بين يدي الآن ؟ تستأذنني في أن أقطف ثمرتها ، أن أنصب نفسي ملكًا على عرش قلبها . سكتت لتنتظر ردي ، لتنتظر إعلان حبي ، غير أن كلماتي التي خذلت قلبها صفعتها على غير إرادة مني .
قلت : لكني لا أحبك !
نعم ، أكن لك إحساسًا رقيقًا ، غير أنه ليس بحب الرجل للمرأة .
(صمت) .
قطرات من الدمع تساقطت .


لم أدرك هل أنا الذي تحدثت أم أحمق آخر غيري ، ماذا قلت ؟! حدثت نفسي طالبا إياها أن تعود أدراجها سريعا ، أن تصحح ما كان ، أردت أن أطلع حبيبتى على هذا السر الذي طال احتفاظ قلبي به ، أردت أن أعلمها كم أني أحبها ، ليس أنا الذي تكلم في هذه اللحظة ، حاولت أن أراجعها في ما قلت ، وأن أصرخ في السكون قائلا أحبك ، أن أحطم ثقلا كان يلجم لساني كلما أردت أن أفصح عن عشقي .


صمت لم يطل بي وبها . تركتها وذهبت ، وفور أن عدت إلى منزلي ، دخلت غرفتي وألقيت نفسي على سريري وانهمرت في البكاء ، لماذا لم أخبرها ؟! هل عجز لساني عن نطق كلمة من ثلاثة أحرف ؟ هل ما زالت ذكرى الأستاذ الذي عذبني في الابتدائية تأسر عقلي ؟ أم أن مفاهيم الحرام والحلال هي التي منعتني ؟
أي عذاب هذا الذى يمنعني عن ضمها ، ويلقي بي في عذاب أشد؟ وأي حرام في عشق تحومه لمسات الطفولة البريئة ؟ حتى وإن لم تكن بريئة ، فأي قانون يمنع عاشقين أن يجتمعا على كلمة أحبك ؟


حدث الصدام بين دين الإخوان ودين الحب ، فكيف لي أن أرى الحبيبة ذنبًا يجب التوبة منه ، وأن أرى المرأة معصية تسير على الأرض ؟ هي كائن يسير خلف الرجل ، وخلفه بمراحل ، ولو اقتربت من الرجل كانت أول الطريق للوصول إلى جهنم التي لا تبقي ولا تذر ، غير أن هذا الصدام دائما ما كان ينتصر فيه دين الإخوان . كان من المستعصي على هذا القلب أن يتخطى خرافات العقاب اللحظي .


كنت أرفض الحب لا عن قناعة بدينهم ، كنت أرفض الحب خوفًا من العقاب الذي أصله في عقيدتي تعذيبي في المدرسة الابتدائية ، وترهيب الخطباء لنا من الإقدام على هذا الذنب الأجم . غير أن هذا الخوف من الحب العذري السامي أحالني إلى عالمي السري بحبه الحيواني وفقط .


تحول الضغط في دائرتي داخل الإخوان إلى انفجار في دائرتي السرية ، وأدركت عوالم أخرى أعطتني إحساسًا باللذة . لم أكن أعرف إن كان شبيهًا بإحساس الجنس أم لا ، غير أنه إحساس كان يشعرني بالمتعة . سمعت بعض الأصدقاء في مدرستي يتحدثون عن هذا الأمر الذى يأتيه المراهق عن طريق مداعبة حيوانه فيثار ليصل إلى ذروة من اللذة لا تقارنها لذة ، أتيت هذا الأمر مرة وأخرى ومرات ، غير أني لم أنتبه إلى كونه في كل مرة يقتل هذا الحب العذري في قلبي ، وكان يحيل المرأة في نظري إلى أداة للجنس وفقط ، فالمرأة خلقت كي نمارس الجنس معها ، هي فقط وعاء للذة .


أذكر قول شيخي لنا إنه من يحفظ نفسه في الدنيا فله في الجنة سبعون من الحور العين يمارس معهن الجنس . هذا الكلام كان يزيد تأصيل الفكرة في ذهني ، فالإله هنا وضع المرأة كثواب للطائعين ليمارسوا معها ما حفظوا الإله فيه في الدنيا ، إذن فالمرأة أداة للجنس وفقط ، وإن كان هذا الأمر مختصًا بالإنسان كأصل سواء كان ذكرًا أو أنثى فلم لم يرد القول إن هناك أيضا سبعين من الذكور الحسان للمرأة لتمارس معهم الجنس .


تلك الفرضية أصلت في ذهني أن الثواب للرجال وفقط ، أما النساء فهن خادمات للرجل في الدنيا والآخرة . زاد اختراقي لهذا العالم الحسي وزاد تشبثي به ، ومعه قلت معاني الحب بعذريته وتوحشت النظرة للمرأة على أنها أداة للجنس . كنت أثار من أي أنثى تسير أمامي ، مهما كان سنها ، ومهما كان جمالها ، فلا معيار للجمال والقبح عندي ، فالنساء كلهن جميلات طالما يقدرن على ممارسة الجنس .


احتل هذا الأمر حياتي السرية ، واحتلت التوبة من هذا الأمر حياتي العلنية في دائرة الإخوان ، فكنت أداعب حيوانى ليلا فأفرغ شهوتي ومن ثم أغتسل وأتوضأ وأصلي ركعتي التوبة ، مستغفرًا الإله من تلك الكبيرة التي حتما ستقودني إلى النار .


غير أن هذا الذي كنت أعده ذنبا كان معصيتي الأولى التي قادتني إلى معاصٍ أخرى ساعدت في تحللي من هذا التيار ، فالإخوان كما أوردت في مقال سابق يصلوا بالعضو في إحدى مراحل تربيتهم إلى أن يربط بين الجماعة والدين حتى يحصل المزج الذي يصعب على الإخواني حينها أن يفصل بين الدين والجماعة فيصيرا مصطلحا واحدا بمدلول واحد ، فأنت إن أردت أن تخرج من الجماعة بعد هذا الربط فعليك أن تتحلل من الدين ، تتفكك من تعاليمه فإن أنت تخلصت بالكلية من ربقة الاثنين حينها من الممكن أن ترى الصورة بتجرد أكبر يمكنك من أن تدرك ما الذي كان ، وما الذى يجب أن يكون ، دون أن يشوب الدين شائبة اسمها الإخوان المسلمون . فالإخوان يمثلون الطاعة ، فإن أردت التحلل من ربقتهم فلن تجد سوى طريق المعصية سبيلا .


كان من المستحيل أن يجمعني حوار بأحدهم لأخبره معضلتي تلك ، فهذا أمر جلل . لم أكن أدرك حينها ما سر تجنب الخوض في مثل تلك الأمور الجنسية ، فهى من المحرمات فعلا وقولا ، غير أن هؤلاء ممن حرموها لا يدركوا أن غريزتنا سوف تدفعنا لخوض غمار هذا الأمر في عوالم أخري ، ربما تكون سليمة ، لكنها في أغلب الأحوال ما تكون غير مقومة .


تلك الفترة التي بدأت أستشعر فيها رغباتي كانت فترة أشد ألما على القلب من أي فترة حياتية أخرى ، ذلك أنني أرغب في أمور هى طريق للجحيم ، وفي الحين ذاته لا أملك القدرة على نبذ تلك الأفكار عن مخيلتي .

لقد ظللت سنوات أحلم أني أقبل امرأة ، وأتخيل هذا الأمر ، وعندما حصلت على قبلتي الأولى وجدت الأمر ليس كما تخيلت ، وليس في حاجة لأن أضيع كل تلك السنين وأن أعطل تفكيري على هذا الأمر ، حتى وإن شعرت بالمتعة فهي متعة لا تستوجب أن تقف الحياة لسنوات حتى أفعلها .

ما المانع في فتح مثل تلك الحوارات معنا كأطفال ومراهقين في ما يخص الجنس ؟

كيف بنا نحرم أمرًا ونعاقب على الإتيان به ونكيل العذاب لمقترفيه دون حتى أن يتم التعريف بتلك الأمور ؟!

لماذا نشعر بهذا الأمر ؟
لماذا لا نقدر على تجنب التفكير فيه ؟
لم تلك الرغبة القاتلة في الإتيان بأحد أفعاله ؟

ولم تلك الطلاسم والألغاز التي تحيط به؟


كأن هذا الأمر إحدى أساطير الماضي السحيق التي من المتعذر الخوض فيها ، غير أن كبتهم تلك الرغبة ومحاولات القضاء عليها عن طريق الإكثار من الصلاة والقيام والصيام وقراءة القرآن وغيرها من الوسائل والتي كانت جميعها تسعى لقتل النتيجة دون أن تخوض في الأسباب التي دفعت بالرغبة الجنسية لهذا الطريق ، تلك المحاولات دائما ما باءت بالفشل .


زاد ارتباطي بهذا العالم السري كبديل عن تلك المرأة المحرمة ، فهم لم يأتوا بجديد ، حرموا علينا العالم الحقيقي الذى تسمو أحاسيسه بالإنسان لينتهي إلى عالم سري يقتل فينا الإحساس بالآخر ، يحولنا إلى مجرد حيوانات لا ترى سوى فريسة أمامها.


لم أتعجب من تلك الحادثة التي حدثت في إحدى ليالي العيد منذ سنوات في منطقة وسط البلد عندما قامت مجموعة من الشباب على غير ترتيب أو استعداد بمهاجمة الفتيات والتحرش بهن وهتك أعراضهن ، لو كنت هناك حينها لما تمكنت من ترجمة موقفي ، هل سأكون بينهم أهتك أعراض النساء ؟ أم سأكون رجلا يدافع عن عرضه ؟


لكن مسألة الأعراض تلك ليست بذات أهمية لمراهق يحصر كل تفكيره صباح مساء في هذا الجسد الذي يكاد يقتله من شدة رغبته فيه .

قد أكون غزلت مراحل الخروج من دائرة الجماعة في مواقف عدة ذكرتها سابقا ، غير أن الجنس والمرأة هما من قتلا تلك الدائرة نهائيا .

والأعجب في الأمر أنني لم أقو على تقبيل فتاة إلا بعد أن تركت دائرة الجماعة في عام 2005 ، كنت أعتقد أن الإتيان المادي المشترك بين شاب وفتاة لمثل تلك الأمور هو زنا يستوجب الحد ، علما بأني كنت أقتل إنسانيتي في دائرتي السرية ، وظننت لسنوات أنني فقط المجرم الوحيد في هذا الكون حتى اكتشفت تلك الفاجعة بعد تركي الجماعة ، فجميعنا كنا هذا الحيوان ، داخل الدائرة وخارجها ، الجماعة وغيرها ، فقبل أن تسبوا الذئاب البشرية تلك التي تنتهك أعراض الفتيات في الشارع يجب أن تكيلوا السباب لتلك التربية الدينية المحضة التي أصلت في أذهاننا أن النساء مجرد وعاء للجنس ينتفض به فرحًا حيوان الرجل .